(الدنيا بخير) طالما الناس في العيد يهزمون الأحزان ويواصلون حياتهم بإصرار، فرغم رحيل الشيخ "حسن أبو آسيا" وقبله ابنه "الجيلي" الذي تبرع بكليته لأبيه، ما زال المسجد عامراً، وطعم الحياة حاذقاً وحلواً في وجود " حاج محمد، العمدة الطيب، مبارك السماني، حسن سعيد، رقية طه، محمد طه، وأمي حاجة الوداعة أحمد آدم، وكثيرون بينهم والمؤذن "عبد الله عبد الحي" و"هبار" الأب الروحي لنا عندما كنا طلاباً. ترمي بشرر في صبيحة العيد بكيناهم، ونحن نقول (مبروك السيسبان الروكة العرسة ليك مبروكة) للحفيد الذي كان يلبس زي الآباء والشارب ينمو، وفي حلتنا لعبة الساقية والشابات اليافعات يقفن صفوفاً لصلاة العيد، وفي عيونهن كثير من الكبرياء، وإيماناً لا يُحد بالقضاء والقدر، وفيها أطفال ما بلغوا الرشد حتى حملوا جوازات سفرهم لأنهم يعلمون أن المال مكانه بعيداً عن الوطن، ربما لبنان أو السعودية، لا يعرفون رغم أنهم لم يسمعوا ب "غادة السمان أو عبده خال" ولم يقرؤوا روايته البديعة (ترمي بشرر)، لكنهم ذاهبون إلى مواسم حصاد التفاح و(السعية) جنوب المملكة، ويا لها من لقمة عيش. وعندما بكى "أولاد هبار" في صبيحة العيد أبيهم، بكوه لأنه خرج من الوظيفة ليبني بيتاً من عرق جبينه فيدين الظلم الذي حاق به، وحينها كان صوت "حسن" ود المؤذن " عبد الله" يجعل الناس ينظرون ويستمعون مرتين للحياة، مرة على صوته الذي يماثل صوت أبيه، ومرة على نواح الأرامل والعوانس والفقراء (زاد عددهم كثيراً)، لكن خطبة مولانا الأستاذ "إدريس الشيخ" رغم بساطتها كانت محاضرة مفيدة وضعت الحصان أمام العربة، إنه حديث المربيين الكبار. حكايات الفرح والأوجاع (مبروك السعادة والأيام الطيبة)، عبارة يسمعها الصم، ويشاهد أثرها العميان، ويتذوق طعمها المحرومون، وفي المساحة الوسطة وجبتين ومؤنة أيام التشريق ورصيد مالي لشاي اللبن للأصدقاء والضيوف، وفرصة لإطلاق النكات البريئة والقفشات، والحكي المثير، ف" شمس الدين" لا زال يبحث عن شريكة حياته، و"الريح" اشترى بوكس تايوتا، وفلان فكر في الزوجة الثانية ( معلمة درداقة) و"أبو فاطمة" تحول إلى حمامة، بينما صار "عادل موسى" أباً، بعد معاناة طويلة. وعلى ذات النسق، تساءل الجميع، أين نادي الأهلي القديم، حين كان " ماجد الصديق" يبكي عند الفوز والهزيمة، وآل "أبو صاقعة" إن علوا وإن نزلوا ( من الجد إلى الحفيد)، وما زال نادي الاتحاد يلمع في جبين أهله، حتى أن له في وقت الصلاة مساحة للنقاش، لكن في الذاكرة رحيل "عبد العظيم قرشي" مات بالكلى، وكان يرسل النكات وسط الألم المميت، أما "سامي قرشي" اللاعب الخطير في (مدني والمناقل) والذي لم يجد حظه في أندية الخرطوم، صار يسعى بين الدكان والمسجد يرعى صغيراته "حواء وأميرة" وهو سعيد. السوق فيك يسوق الدنيا سوق السبت وفيلم أمريكي، ومباراة بين (هلال منير وأهلي الوزنة) والملاسنات (التشجيعية) الحادة في سوق الخضار، تخفف وطأتها قربى الدم والنسب والأخوة الطويلة، فيسري الضحك مجدداً بين الجميع، رغم فشل المحلية في ردم (ميعة) خريف السوق ولزوجة الوحل أمام أكشاك الشاي الذي يعدل مزاج عموم أهل (العزازي). وبالمناسبة رطل اللبن بقى ب( ألف)، والطماطم المجنونة أضحت عصية على موائد الكرام، ملابس العيد نار والغاز ب (40 )، والحريق الذي اشتعل أمام طلمبة البنزين عزاه الجميع إلى إهمال إدارة الولاية، هكذا تتداول الحكايات على رشفات الشاي، وما لا تجده في "العزازي" أكثر أهمية من الموجود، لا عربة إسعاف ولا غرفة عمليات مؤهلة، ولا ردمية يدخل بها أهل القرى السوق الكبير مرتين في الأسبوع، والإدارة لا تغل يديها فحسب، بل تعرقل الجهود الشعبية عندما تدخلها لجنة وأخرى منبثقة منها، فتموت. ليس لأمر فيك تجديد رحل المهندس "علي النعمة" وشقيقه "أحمد طيب" في يومين فقط، الأول بمرض سريع، والثاني في لحظات معدودة، وها هو ابنه يلبس الشال على طريقة أبيه ذات الملامح والشبه والنكتة والموقف والنظافة والرأي السديد، وإشارة بليغة مصدرها عمنا " العبيد ود الحبر" الذي ظل يصلي الفجر ويتوجه نحو السوق، لكنه في ذلك الصباح داخ واستسلم لشيء عجيب، فوجد نفسه ب(طابت) الشيخ "عبد المحمود" المكان الحبيب. ويا زمان، دعنا ننشد (عيد بأي حال عدت) بتلك الوجوه المكدودة والتعب الواضح والأحزان المدفونة وراء كل الأجيال، فمدرسة الحلة ما زالت وأنت تجئ وتمضي يا عيد، ما زالت بدون حوش ولا شجرة واحدة وكهرباء، والمقابر كحالها منذ (رفات) الأجداد، والجنينة الوحيدة للترفيه صارت بلقعاً، ولم يتبقِ للأحبة سوى السرير والنجوم والقمر في بدره إذا كانت الناس رايقة.