مع أن أهل الريف يعانون من كل شيء، لكنهم ما زالوا أوفر صحة، وأكثر حيوية، بل وأطول عمرا فيما نسمع، مقارنة بأهل المدن ! كنت أظن أن تلك ملاحظة انطباعية .. لا تستند على رأي علمي، حيث ان السائد هو أن أهل المدن يحظون بعناية طبية أكثر، ولذلك ترتفع بينهم نسبة المعمرين، ويكونون في حال أحسن من أقرانهم في الريف والقرى . لكن خبرا قرأته أمس .. أكد أن الملاحظة ليست انطباعية، وأنها تستند لواقع حقيقي، فقد أشارت دراسة أمريكية إلى أن تلوث هواء المدن، والأجواء الشائبة فيها مقارنة بالقرى والضواحي .. عوامل من الممكن أن تؤثر في سلامة الدماغ بعد سن الخمسين. وأشارت الدراسة إلى أن ذلك التلوث في المدن يعجل بشيخوخة أدمغتنا .. بمقدار ثلاث سنوات عن المعدل العادي، حيث يؤدي التعرض للهواء الملوث بكثرة إلى انخفاض قدرة الدماغ .. بالإضافة إلى مشاكل القلب والتنفس المعروفة. بصراحة .. التلوث عندنا نحسه، ولكننا لا نعرف مقداره، كما أننا لا نعرف جهة تتكرم علينا بتقديم معلومات دورية محددة عنه، وهو تلوث يشمل الهواء والماء والبيئة، للدرجة التي أصبح فيها كل من يسعل، يشير إلى تلوث الجو، وكل من يصيبه الإسهال وآلام البطن، يشير بأصابع الاتهام إلى الماء والبيئة المحيطة ! ربما كانت الخرطوم الأعلى في التلوث، ليس بسبب حركة الصناعة فيها، ولكن بسبب تزاحم المركبات في شوارعها، وبعضها يعمل بوقود الديزل، وهو وقود معروف بشدة تلويثه للجو، ويخضع في العادة للمراقبة في الكثير من الدول، من خلال ضبط العددية من المركبات وغيرها التي تعمل به .. حفاظا على صحة الناس . كما أن الخرطوم، رغم جهود السفلتة، ما زالت تعج بالغبار، خصوصا في أطرافها، وهو غبار لا يتوقف في مكان واحد، بل ينتقل متجولا في السماء العاصمية، والتي بدأت في فقدان زرقتها الجميلة، بعد أن كنا نتغنى بصفائها حتى سنوات قليلة مضت . والدراسة التي قام بها المعهد الوطني الأمريكي لأبحاث الشيخوخة على 15 ألف شخص، ليست معزولة عن شبيهاتها من الدراسات، فهناك دراسة أخرى تمت في جامعة "جنوب كالفورنيا" أثبتت تأثير البيئة على الدماغ عن طريق تلوث الرئتين بقلة الهواء النقي، والذي يؤثر بدوره على كمية الأكسجين الواصلة للمخ مما يؤثر بالتالي على قدراته. هذه الملاحظة .. يمكن الآن الاطمئنان إليها، ونحن نرى بأعيننا أن الكثير من أريافنا، والتي هجرتها القوى العاملة الشابة، وتركتها لكبار السن، ما زالت حفية بهؤلاء المسنين، حيث ترفدهم رغم قسوة الحياة فيها بهواء نقي طازج خال من السموم، كما تهبهم بيئة ليست متخمة بالمبيدات والديزل والغبار والدخان، فضلا عن أن سماءها تحتفظ بنقائها النهاري، وصفائها الليلي وهي تحتفي بالقمر والكواكب والنجوم . هذه الأرياف .. رغم خوائها البشري، تحافظ على المسنين القاطنين فيها، وترفدهم بعوامل البقاء لسنوات أطول في صحة وعافية، في حين يتداعى أهل المدن تحت معاول المرض المرتبط بالتلوث، فتتوقف قلوبهم باكرا، وتتمزق أمعاؤهم بتكرار الإصابات بالإسهال وغيره من آفات الجهاز الهضمي . أريافنا منسية، ومهضومة الحقوق، وتعاني كثيرا من التهميش وتردي الخدمات وصعوبات الحياة، ومع ذلك تهب الحياة الآمنة الصحية لقاطنيها . ما أحوجنا للأوبة إلى ريفنا الجميل !