يفر الرجل باحثاً عن طاقة ضوء هاربة في مجاهيل العتمة، يهرب إلى تضاريس الصمت، يرميه الحزن في متاهة الحزن، ويصبح تماماً كبعير أرهقته رحلة النهار في صحراء تغيب فيها الظلال، وحده يقرأ في كراسة الواقع، يهرب من الضجيج اليومي إلى مقهى يفتح أبوابه حتى يتهاوى جناح الليل، رواد المقهى أنماط مختلفة من البشر، كل واحد غارق في همومه وتأملاته، كان واحد منهم يرتدي ملابس رياضية ويكركر في إسطوانة الشيشة كطفل يلهو في حقل على ضفاف النسيم، رجل آخر كان يلف رأسه بعصابة زرقاء ويقرض أصابعه مثل جرذ خائف من رياح الشتاء، كانت عمالة الليل في المقهى يوزعون ابتساماتهم المنطفئة كأقمار ساهرة على ضفة الريح، يتلفت الرجل حوله ويكتشف ثمة أمطار خفيفة كوقع الندى على صفحة العمر، الله ما أجمل المطر حينما يهطل فجأة دون مقدمات، مطر الشتاء له طعم لاذع وشهي مثل نكهة الكاري الهندي في مطعم يطل على حافة خائفة من عنفوان الموج، ينتشي كفرخ بط على بحيرة راكضة على إيقاع الليل، يأتيه النادل وهو يتمنطق بحزام وزي شرقي كبطل في حكايات ألف ليلة وليلة، يبتسم الرجل (شيشة وللا عصير كوكتيل أم طبق فيتوتشيني بشرائح جبن البارميزان والجمبري)، يتذكر الرجل أن آخر مرة جرب فيها الشيشة داهمته كحة جافة إستمرت لأكثر من عشرة أيام، وبعدها لم يكرر مثل تلك المغامرة المستفزة، يفرك يديه في حركة دائرية، ويهتف مثل عصفور هارب من شبابيك الأيام .هل لديكم وجبة من الصمت؟ وجبة من الصمت؟ يلوك النادل الحروف، وتتسع عيناه كعصفور خائف من الريح، نعم نحن نبيع الصمت، فكل ما حولنا هنا صامت كردهة هاربة في مدينة الأشباح، قالها النادل وهو يحاول تدارك امتعاضه من الطلب الغريب، يتأمل الرجل الصامت مشهد (شبورة) تتلوى في صفحة البحر مثل كراسة تلتهمها نيران السنين، يملس شاربه المنتوف، يضحك الرجل وشر البلية ما يضحك، ويبدأ يستعيد من قاع الذاكرة مشهد الحكام العرب الذين يعشقون صمت شعوبهم، يتذكر أن الصمت العربي ذهب أدراج الرياح وغاب عن أبجدية الراهن اليومي، وأن المارد خرج من قمقمه، لكن في نفس الوقت، فإن الحكام العرب من الأزرق إلى الأزرق، يحاولون هذه الأيام إعادة الملايين الصامتة، أقصد الثائرة مرة أخرى إلى حظيرة الصمت، لكن وين تلقوا زي ده؟