يبدو مشهد العملية التفاوضية بين دولتي السودان وجنوب السودان أشبه بالمسرحية رتيبة الفصول، مع وجود قاسم مشترك أوحد بين جميع جولات التفاوض للجنة السياسية الأمنية التي أعقبت التوقيع على اتفاقية التعاون المشترك نهاية سبتمبر الماضي، هو الفشل، ورغم ذلك حرص وفدا التفاوض في كلتا الدولتين على التأكيد على نقطة جوهرية تفيد بأنهما ما يزالان ملتزميتن بمبدأ التفاوض مثلما هما ملتزمتان بتنفيذ ما أتفق عليه من الملفات محل التفاوض، غير أن خطوة التنفيذ تلك وقفت حجر عثرة أمام المضي بالاتفاقية إلى نهاياتها المرجوة. وفيما أخفق رؤساء الوفود المفاوضة، لا سيما وزيرا الدفاع في البلدين، رئيسا اللجنة السياسية الأمنية في الاتفاق في تحديد مصفوفة الجداول الزمنية لإنزال الاتفاق الذي وقع عليه رئيسا الدولتين "البشير" و"سلفا كير" بالأحرف الأولى منتصف الشهر الماضي، بدا واضحاً أن الوفود المفاوضة اعتمدت وبصورة كلية على مفاوضين جدد يحملون صفة الرئاسة، إذ أعلن وزيرا الدفاع في الخرطوم وجوبا وبموافقة الوساطة الأفريقية رفيعة المستوى عن ترحيل كل القضايا الخلافية في ملف الترتيبات الأمنية إلى لقاء الرئيسين المقبل المحدد له غداً (الخميس)، ولم يفت على الوفد الحكومي إلقاء اللائمة على وفد جنوب السودان عقب فشل الجولة الأخيرة متهماً إياه بعدم الجدية، خلال الاجتماعات، في التوصل إلى خطوات عملية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بالمسارات الثلاثة ومماطلتهم في تنفيذ ما تم إقراره من قبل الرئيسين في القمة التي عقدت بينهما مؤخراً. وكان وفد اللجنة الإشرافية على أبيي الذي رفع أعماله قبل (24) ساعة من رفع اجتماعات السياسة الأمنية قد أعلن هو الآخر عن نقل الخلاف الذي لازم تشكيل تشريعي البلدة الغنية بالنفط إلى قمة الرئيسين أيضاً. ويسود اعتقاد واسع بأن لقاءات "البشير- سلفا كير" أضحت عبارة عن جولات تفاوضية قائمة بذاتها يلعب فيها رئيسا البلدين دور كبيري المفاوضين، بحيث يتم فيها وضع كل نقاط التفاوض وتسلم للجان الفنية المختصة لوضع الأجندة الزمنية الخاصة بإنزالها إلى أرض الواقع، ليتم بعدها إعلان فشل الجولة، وبدا أن على حكومتي البلدين مراجعة أوراقهما والدفع بخطط تفاوضية جديدة تفلح في إعادة الثقة المفقودة بين البلدين، غير أن هناك من يرى أن على أعضاء التفاوض في الخرطوم وجوبا التحلي بالجرأة الكافية ومخاطبة رئيسي البلدين بأنهم فشلوا في التوصل إلى صيغة تفاهمية مشتركة. وحسب المحلل السياسي "صفوت فانوس" فإنه على فريقي التفاوض الدفع بمطالبات للقيادة العليا لإعطائهما المزيد من الصلاحيات التي تمكنهما في حسم القضايا دون الرجوع إلى الرئيسين، أو خلق آليات جديدة تساعد في إحداث اختراق واضح في حائط التفاصيل الأصم. وشرح "فانوس" ل(المجهر) أن الوفد المفاوض يأتي إلى جولة التفاوض بمحددات واضحة من القيادة في البلد وعليه التقيد بها والمناورة داخل حدود المساحة المتوفرة، وفي حال تعنت كل طرف بموقفه المحدد مسبقاً من صانعي القرار يكون حينها الفشل سيد الموقف، وبالتالي العودة مرة أخرى إلى مربع (قمة الرئيسين). وفي الوقت الذي جاهر فيه رؤساء اللجان التفاوضية بفشلهم في مهمة التوصل إلى نقطة التقاء وترك المهمة للرئيسين، هناك من يشكك في نحاج الرئيسين في تلك المهمة هذه المرة ما لم يقدم كل طرف التنازلات الكافية لتقريب شقة الخلاف في القمة الرئاسية المقبلة. وحسب "فانوس" فإن الحكومة السودانية في حال لم تغير موقفها التفاوضي فإن عليها انتظار قرارات مجلس الأمن الدولي. وهو الشيء الذي لطالما سعت إليه حكومة الجنوب بتلكؤها المستمر والعمل بمبدأ كسب المزيد من الوقت، وهو ما عبر عنه رئيس لجنة إشراف أبيي من جانب دولة الجنوب "لوكا بيونق" أمس، داعياً الرئيس "البشير" إلى التحلي بالحكمة اللازمة والقبول بقرار الاتحاد الأفريقي حول أبيي كما هو، وإلاّ فإن قرارات مجلس الأمن ستكون هي الفيصل بين البلدين. فيما قللت الخرطوم من مسألة الانزلاق في مطب مضي الوقت والتلويح بفزاعة مجلس الأمن، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تعوّل بصورة أساسية على الاتحاد الأفريقي ومقدرته العالية في إدارة الحوار بين السودان وجنوب السودان داخل البيت الأفريقي، بالإضافة إلى التواصل بين البلدين كفعل مستمر بغض النظر عن مخرجات ذلك التواصل. ووفق منظور عضو الوفد الحكومي المفاوض ومدير الإدارة الأفريقية بوزارة الخارجية السفير "بدر الدين عبد الله"، فإن عامل الوقت لن يكون مهدداً بالنسبة لهم طالما أن كلتا الدولتين في حالة من التواصل والجلوس على طاولة واحدة مشتركة. ويرى "بدرالدين" في حديثه ل(المجهر) عدم وجود حاجة للجوء إلى مجلس الأمن الدولي طالما أن الاتحاد الأفريقي يبذل مساعي حثيثة في اتجاه ردم الهوة بين البلدين الجارين. يذكر أنه من المقرر أن يلتئم اليوم، بنيويورك، اجتماع لمجلس الأمن الدولي لمناقشة مخرجات العملية التفاوضية بين السودان وجنوب السودان، حيث سيخاطب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة "هايلي منقريوس" جلسة مجلس الأمن المجدولة والخاصة بملف دولتي السودان.