! * كانت (الرأي العام) إحدى المحطات الصحفية المهمة في حياتي، بل أهمها على الإطلاق، فهي أول جريدة كتبت فيها (العمود) بشكل يومي، بعد ان ظللت سنوات طويلة أمارس الكتابة الأسبوعية إما في شكل مقال أو استراحة أو عمود، وقد كنت اجد نفسي في كتابة (الاستراحة الساخرة) التي تفاعل معها الكثيرون، وهي التي بدأت بها رحلة العمل الصحفي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بجريدة (الأيام) الغراء عندما كان الصحفي الكبير المرحوم (حسن ساتي) رئيس تحريرها! * ومن الاستراحة انطلقت الى كتابة العمود الصحفي السياسي الاجتماعي الساخر بجريدة (الصباحية) الاجتماعية التي كانت تتبع لمؤسسة (الرأي العام) وكنت مديراً لتحريرها، بينما كان الصديق وتوأم الروح الدكتور عبد اللطيف البوني هو رئيس التحرير، ثم انتقلت الى كتابة عمودي اليومي (مناظير) ب (الرأي العام) بطلب من الأستاذ ادريس حسن رئيس التحرير وقتذاك، وكان ذلك في عام 1998م، ويعود الفضل في اختيار اسم العمود الى الأستاذة الزميلة (نعمات قرني) التي كانت تعمل في إدارة المراجعة اللغوية. * في حقيقة الأمر، فإنني كنت قد طلبت من الأستاذ ادريس في وقت سابق، أن يعطيني (مساحة) لكتابة عمود يومي بالصحيفة، فطلب مني الانتظار بعض الوقت، وكنت وقتذاك قد حققت قدراً كبيراً من القبول لدى القراء من كتابة الاستراحة الساخرة بالصفحة الأخيرة شجعني على تقديم ذلك الطلب للاستاذ ادريس. * ولم يطل انتظاري طويلاً، فقد فاجأني الاستاذ ادريس بتلبية طلبي بدون مقدمات، وطلب مني كتابة عمود يومي وترك لي الخيار لتحديد الموضوع، فكتبت عن مأساة المواطنين في غرب أم درمان الذين اغرقتهم السيول والأمطار في عام 1998م، مستخدماً نفس الأسلوب الساخر الذي أثبت نجاحه في (الاستراحة)، وكان فحوى الموضوع هو (أكياس الشعيرية) التي توزعها السلطات على المواطنين الغرقى بدون ان تكون لديهم امكانية استخدامها، غير أكلها جافة، وكان عنوان الموضوع (شعيرية الكوارث).. وأذكر انني زرت المنطقة بعد بضعة أيام للمشاركة في تحقيق صحفي، بعد الزيارة الأولى التي قمت بها للتعرف على حجم المأساة، وعندما سألت بعض المواطنين هل مازالت السلطات توزع عليهم (أكياس الشعيرية)، كانت إجابتهم بأنها استبدلتها ب (أكياس المكرونة) .. وكان ذلك موضوعاً لعمود آخر اعتذرت فيه للمواطنين عن مناشدتي للحكومة باستبدال (الشعيرية) بمادة غذائية يمكن ان تؤكل بدون اللجوء الى الطهي مثل (البسكويت)، فلم تجد الحكومة إلا (المكرونة) التي تحتاج الى اسنان ومعدة من حديد لتطحنها وتهضمها بينما كان معظم المحتاجين الى المعونات الغذائية من الأطفال والعجزة، وأسميت الموضوع (العبقرية بين المكرونة والشعيرية)! * لم تكن المفاجأة فقط، ان يطلب مني الاستاذ ادريس كتابة عمود يومي في (الرأي العام) التي يتوق الى النشر فيها كل صاحب قلم ورأي، ولكن كانت في انه وضع عمودي في الصفحة الأخيرة، وظل هناك لمدة طويلة قبل ان أطلب منه تحويلي الى (صفحة خمسة) بسبب تغول الإعلانات على المساحة التي اكتب فيها بالأخيرة، فتضطر السكرتارية الى تحويلي الى احدى الصفحات الداخلية بدون سابق انذار مما يسبب لي الكثير من الإزعاج.. فاستجاب مشكوراً لطلبي، وظللت أكتب العمود اليومي والاستراحة وتحرير الصفحة العلمية الاسبوعية، وتحرير صفحة المنوعات الاسبوعية قبل ان توكل الى الزميل والصديق (محمد عكاشة) وذلك طيلة خمسة أعوام، الى ان انتقلت الى (الأيام) تحت رئاسة استاذ الأجيال محجوب محمد صالح، ومنها الى (الصحافة)، وافتخر بأنني أحد القلائل الذين عملوا في هذه الإصدارات العريقة الرائدة في تاريخ الصحافة السودانية.. قبل ان انتقل الى (السوداني)! * ومصدر فخري، ليس مجرد وضع اسمي فقط في اماكن بارزة في هذه الصحف، والحب الذي وجدته من القراء، بل ما اكتسبته منها من علوم وخبرات وعلاقات في مجال العمل الصحفي، وان وجب علي في هذه العجالة ان أذكر بعضها، فهي بالتأكيد المهنية العميقة في (الرأي العام)، والمسؤولية الكبيرة المرتبطة بالحرية المطلقة في (الأيام)، والتلقائية المحببة للقراء في (الصحافة).. وهي أنماط من العمل الصحفي ترسخت في تلك الصحف بفضل مؤسسيها ورؤساء تحريرها الأوائل، وعلى رأسهم رائد الصحافة السودانية استاذنا اسماعيل العتباني، الذي فارقنا بعد رحلة طويلة زاخرة، فله الرحمة، ولآله وتلاميذه ولنا الصبر وحسن العزاء. [email protected] مناظير - صحيفة السوداني - العدد رقم: 1157 2009-02-1