كانت (العافية) في طريق عودتها للبيت محملة بمشترواتها من سوق القرية .. سارت الهوينى تتمايل ذات اليمين وذات اليسار ك (مفرمة الملوخية)، وهي تنوء بحملها وتجتهد في حفظ توازنها ببراعة بزّت بها حركات بنات الأكروبات الصينية، فقد كانت تتوج هامتها ب قفة دقيق (الزرّيعة) بعد أن طحنته في طاحونة (ود الرضي)، وفي يسراها مجموعة أكياس جمعت فيها من دكّان التشاشة خلطة من بهارات الآبري، أما شقّها الأيمن فقد مال وانتكا بحمل كيس الخضار واللحم وقد برزت منه أعواد الملوخية .. مالت إلى جانب الطريق مع منحنى اللفة التي تقود لبيتها في نهاية الزقاق، عندما ضربت الفرملة فجأة حتى لا تصطدم ب (السرّة) القادمة في اندفاع من الجهة المعاكسة وقبل أن تتفوه بكلمة عاجلتها جارتها ب: هي يا العافية .. بركة اللاقيتك عشان ما تمشي تلومينا وتقولي فتْناك .. إتسرّعي دليّ خضارك في البيت وأبقي مارقة .. ورحكي النسوان ماشات لي (صفية بت النور) قالوا الدايم الله عمّة أولادا ماتت بالشرق .. لم تسمح (العافية) ل (السرّة) بمواصلة كلامها فقد قاطعتها في غضب شديد: أريتك بي أب فرار اليشق راسك .. شرق شنو الدايراني أمشيهوا هسي ؟ ما شايفاني شايلة دقيق زرّيعتي يا دوب ماشة أكوجنو .. رمضان هلّا وأنا لسه ما عستا الآبري ! صمتت برهة لتلتقط أنفاسها ثم واصلت في تقريع (السرّة) دون جريرة ارتكبتها سوى نقلها ل (العافية) خبر البكا في هذه الساعة الضيقة: مكلّماني مالك علي ؟ الله بسألك .. هسي ما ارتكبتي فيني ظنب (ذنب) ؟ لو ما خشمك الخفيف ده .. أكان متى ما جات صفية راجعة بيتا .. أمشي أآجرا وأحلف صادقة أقول ليها يطرشني ما سمعتا بي خبر البكا إلا بعد نسوان الحلة الما فيهن فايدة ديل فاتنّي !! إن شئت أخذ الجانب الإيجابي للمسألة، فيمكنك القول إن من أقوى مظاهر التعاضد والترابط الاجتماعي في القرية، هو سرعة الاستجابة لطارئ الخير أو الشر، الذي يخرج بالواحد من حضن القرية .. ولادة متعثرة استدعت حمل الحامل لأقرب مستشفى يصلح لاستقبال البني آدميين، حالة صحية متدهورة استدعت تدخل جراحي في مستشفيات البنادر، خبر بكا، سيرة عرس، ومناسبات زواج الاقربين الذين يقيمون خارج نطاق القرية .. كل تلك المناسبات الاجتماعية خيرها وشرها تستوجب سرعة (اللحاق) بصاحبها للمساندة والمؤازرة أو للمؤآجرة .. (لحقوني) و(لحقناهم) و( ما لحقتني ما بلحقا) أفعال مجاملة قروية كاملة الدسم. أما من ينظر لتلك المجاملات بغير عين الرضا، فلا يرى فيها سوى (محقة) و(فراغ نسوان) و(قلة شغلة) وذلك بالنظر لأوقات الفراغ العريض وعدم الموضوع الذي يجثم على صدر الحراك الاجتماعي في القرية، ويترك الجميع .. رجال ونساء في حالة من التوق لحركة تغير تنعش الجو و(ويتعمل بيها موضوع) .. كان (ابراهيم) من أكثر الحاملين لتلك النظرة السالبة ضد مجاملات (اللحوق)، وأشد الرافضين لتكأكؤ النساوين تحت ظلال النيم، وجلسات الشاي والجبنة وعواميد الأكل الدائرة تحت ظلال الزيزفون، كلما (رقد) لناس الحلة (عيان) في مستشفى المنطقة الاقليمي، لذلك أصدر فرمانا صارما يقضي بمنع نساء أسرته الصغيرة والممتدة من محاولة اللحاق ب أي مريض يغادر القرية مستشفيا في مستشفيات البنادر حتى يعود بالسلامة أو يعود جثمانه محمولا على الأعناق .. تقابل نساء أسرة (ابراهيم) ذلك الفرمان بالسخط في الظاهر لمنعهن من مجاملة الناس أسوة ببقية الحريم، ولكن (تحت تحت) فقد ارتاحن من تعب الجري والشلهتة بعد أن شال (ابراهيم) عنهن وش القباحة فصار عذرهن الجاهز لكل تقصير: والله ابراهيم حالف علينا .. نسوي شنو ان نضمنا اتقلمنا وان سكتنا السكات غلب علينا !! إلى أن (دخل الكلام الحوش) وسقط الرجل مريضا مما استدعى حجزه ب قسم العناية المكثفة في مستشفى المدينة .. لم تجرؤ واحدة من الحريم على كسر الحظر والذهاب للمستشفى لمعاودة (ابراهيم) رغم خطورة حالته، بينما جلست زوجته (المسكينة) تبكي وتوصف لرفيقاتها: يا أخواتي الكلام ده ما أعوج .. الراجل يموت بلا ما أعافيهو ؟! بعد مشاورات وفتاوي واستعانة بفقة الضرورات، قرر رجال الأسرة السماح لزوجة (ابراهيم) بالذهاب معهم للمستشفى لزوم المعافاة والذي منّو، وهناك جلست في مسكنة تحت ظل النيمة الرامية بجوار عنبر العناية انتظارا لأخذ الاذن لها بالدخول عليه، بينما دخل شقيقه عليه وبعد (حق الله بق الله) و(اشوفك كيفن اصبحتا) .. نقل ل (ابراهيم) خبر وجود زوجته بالخارج ورغبتها في الاطمئنان عليه .. انتفض (ابراهيم) جالسا وكأنه لا يشكو من الحبّة وطارت عروقه عرق .. عرق وتشحطت عصيباته وقال في هيجان شديد: علي الطلاق بالتلاتة .. تجي داخلة هنا إلا أمرق أفوت ليها المستشفى دي كلو كلو !! لطائف - صحيفة حكايات [email protected]