عندما أتذكر تجربتي في السجن، خلال فترة حكم جعفر نميري، أتذكر درة الشعر الفلسفي، التي صاغها الشاعر الكبير إيليا أبوماضي \"الطلاسم\"، والتي يتساءل فيها عن ماهية الإنسان وصيرورته: جئت لا أعلم من أين/ ولكني أتيت/ ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت/ وسأبقى سائرا شئت هذا أم أبيت/ كيف جئت/ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري/ ....... ويمضي قائلا: ولماذا لست أدري؟/ لست أدري. وكحال الآلاف مثلي دخلت السجن وخرجت منه وأنا لا أدري لماذا دخلت أو خرجت، وكان هناك المئات من أمثالي في سجن كوبر العمومي، ومنهم من قضى فيه شهورا مثلي ومنهم من قضى السنين، وخرج من دون أن يعرف لماذا!! بالطبع كان معنا أشخاص يستأهلون السجن لكونهم ساسة محترفين ومعروفين أعود الى الزنزانات المسماة بالغربيات الجديدة، حيث كنت محتجزا في زنزانة خاصة، ثم امتلأت الزنازين من حولي، ولم يعد ممكنا تدليلنا وتدليعنا بتخصيص زنزانة منفصلة لكل واحد منا، ففتحوا لنا أبواب الزنازين على مدار اليوم، وكان أجمل ما في الموضوع، الاستغناء عن القصريات، حيث صار من حقنا استخدام دورة المياه مثل بقية خلق الله، كان عساكر السجن شديدي التهذيب مع المعتقلين، وكان أرباب السوابق من السياسيين الذين دخلوا السجن مرات عديدة عبر السنين يعاملون معاملة خاصة تتسم بالاحترام الشديد من قبل السجانين، لأنهم التقوا مرارا، وكانت بالسجن لجنة مركزية من كبار وعقلاء المعتقلين تبت في الأمور، وكانت تحظى باعتراف غير مباشر من إدارة السجن، وكانت توجيهات تلك اللجنة صارمة في ما يخص التعامل مع حرس السجن: هؤلاء ليسوا أعداءنا، بل هم رجال بسطاء يؤدون وظائف هي مصدر رزقهم وفقا للوائح ملزمة.. تعاملوا معهم بأدب.. وهكذا كنا نحن \"شباب المعتقلين\" لا نخاطب معظمهم إلا بعبارة \"يا عم فلان\"، وكان عم وأبو الجميع هو الصول \"لوج\"، أعلى الحراس رتبة، وكان صاحب دعابة، يجمع بين الحزم واللطف.. وكان يداعب عواجيز الشيوعيين بكلام مثل: يا أخونا فلان.. حرام.. قضيت معنا في السجن سنوات أكثر من التي قضيتها في بيتك .. خلي الحكومة تبني لك بيت هنا بباب يفتح على السجن وباب على الشارع وتكون نُص معتقل ونُص حر باقي عمرك وكان هناك الشاويش رشاد، وكان مثل العم لوج من جبال النوبة، وكان مهذبا وودودا، غير أن أكثر السجانين لطفا وتهذيبا كان رجلا اسمه \"خ\"، دائم الابتسام، وكان نوبيا مثلي وكنت استمتع بالتحدث معه باللغة النوبية.. ثم نفرت منه، بعد أن علمت أنه \"الشناق\".. المكلف بتنفيذ أحكام الإعدام شنقا،.. ولكن حكماء المعتقلين أصدروا أوامرهم بعدم إبداء أي نفور من العم خ، فهو يؤدي وظيفة رسمية، ولا يمارس الشنق كهواية، ولم أر عم خ بعد ان انتقلت من الغربيات إلى أقسام تضم أعدادا كبيرة من السياسيين، ويبدو أن إدارة السجن لم تكن تريد له ان يتحرك بين كبار الشيوعيين على نحو منتظم وهو الذي نفذ أحكام الإعدام في عدد من قيادييهم كان أسخف ما في السجن هو الاستيقاظ المبكر ل \"التمام\"، وهو حصر عدد المعتقلين، وعندما كنت في الحبس الانفرادي كنت استيقظ عند الفجر مذعورا، لأن العساكر كانوا يضربون سيخ الزنزانة بعصيهم الغليطة: كررو كررو.. ثم: صباح الخير... وكثيرا ما رددت على التحية بأسوأ منها: هل أنتم وِش (وجه) خير؟ شرحوا لي أن عليهم حصر أعداد المعتقلين صباحا ومساء، وبالنسبة إلى الشخص النائم في زنزانة لابد من ايقاظه للتأكد من أنه حي.. فأقول لهم: ستسببون لي سكتة قلبية بالدوشة التي تحدثونها كل صباح.. ويخرجون فأقرر مواصلة النوم، ثم \"كررو.. كررو\": شنو يا جماعة؟.. إنه شاي الصباح.. أقول لهم: لا أشرب شايا في الصباح، ولكنهم يصرون: نحن ملزمون بتقديم الشاي لك وعليك بعدها ان تقرر ما إذا كنت ستشربه أو تستحم به. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]