كنت أتجول في أقسام السجن حاملا ثروة ذات قيمة عالية، ففي تلك الفترة لم يكن مسموحا باستخدام الورق والأقلام ولا قراءة الصحف أو متابعة وسائل الإعلام، وكانت موضة الشعر في ذلك الزمان هي ال\"آفرو\" ومع الأشياء التي حملتها من البيت قبل التوجه الى السجن ثلاثة أقلام حشرتها في تلافيف شعري الغزير.. وفي السجن يفلفلونك وأنت داخل وأنت خارج.. حتى عندما تنتقل من قسم الى آخر تخضع للتفتيش، ولكن لم يخطر ببالهم قط ان تل الشعر الذي يعلو رأسي يخفي أسلحة الدمار الشامل، وكنت كلما انتقلت الى قسم جديد شككت الأقلام في شعري وخضعت للتفتيش بقلب جامد... يا ويلك اذا ضبطوك تحمل ممنوعات مثل الورق والقلم: مصيرك الزنازين البحرية (الشمالية) المأهولة بالفئران والتي يربط المحتجزون فيها سراويلهم وبيجاماتهم حول سيقانهم قبل النوم دفاعا عن الشرف.. وكنت أقوم بتأجير أقلامي لزملائي المعتقلين، بالسجائر: تستخدم القلم لساعة بسيجارة وعرض خاص: ثلاث ساعات بسيجارتين، والسجائر هي أهم عملة في السجن، يأتي المساجين المدانون بأحكام في قضايا جنائية لتنظيف الأقسام التي بها سياسيون، ويغسلون لك خمس قطع ملابس بسيجارتين، والحلاق أيضا كان من السجناء وكان يتقاضى ثلاث سيجارات من كل زبون، وكان الحلاق الذي صادفته مصريا يقضي فترة عشر سنوات سجنا.. وحكى لنا حكايته: عندي قرايب في السودان وعجبني الحال وعشت في أم درمان مبحبح.. وكنت أتجول في سوق أم درمان كثيرا عندما لفت انتباهي ان بعض متاجر الذهب تسهل سرقتها،.. المهم لم تكن عنده سابق خبرة في مجال السرقة! ولكن وكشخص نال حظا من التعليم فقد قرر اللعب ع المضمون، وسرقة أحد تلك المتاجر من دون التعرض للمخاطر، وعمل صحبة مع أحد الصاغة وصار يزوره بشكل شبه منتظم الى ان جاء اليوم الذي قرر فيه ان يضرب ضربته: حلف صاحبنا على التاجر بالطلاق ان يقوم هو بشراء عصير ليمون من قهوة \"يوسف الفكي\" الشهيرة، وحمل الكوبين ووضع في احدهما اقراصا تكفي لتنويم قطيع من الأفيال.. شفط الصائغ شفطة واحدة وراح دايخ.. شلته وحطيته ورا التربيزة وكان معاي كيس ورحت انزل السلاسل والعقود من الفترينات.. ما صدقتش نفسي واني خطتي ناجحة وما تخرش ميّه.. بس فاتت علي حاجة بسيطة.. نسيت ان قزايز الفترينات شفاف.. والناس شافتني وهجموا علي وعينك ما تشوف إلا النور.. فاكرين إني قتلت الراجل.. سممته وللا حاجة.. حلفت لهم ان الراجل حي.. وأول مرة افرح لما اشوف البوليس عشان خلصوني من الحوش الروش اللي ما ميزوش بين النايم والميت.. وأديني زي ما شايف في السجن! قلت في مقالي السابق انني قضيت أسوأ فترات السجن في الزنازين المسماة بالشرقيات لقربها من زنازين المحكوم عليهم بالإعدام، بعد ان سمعت عويل وبكاء أحدهم في أول ليلة لي هناك، وما يؤكد أنني فعلا سي. دي. أبوالجعافر، ذو الكرامات التي تحول العمالقة الى سنافر، فقد استمرت إقامتي في تلك الحفرة أقل من أسبوع حيث تقرر نقل جميع نزلاء الشرقيات الى السرايا.. النقل الى السرايا كان بمثابة \"الإفراج\"، فقد كان أكثر أقسام السجن بهجة وضجيجا وحيوية لكونه يضم أكثر من مائتي شخص، وعندما دخلنا السرايا وكان عددنا نحو ثلاثين، اهتزت جنبات السجن بهتاف مئات الحناجر.. وجدنا انفسنا في احضان العشرات الذين لا نعرف معظمهم ولكن يجمعنا \"المصير المشترك\" وهو أفضل من المصير العربي المشترك الذي هو \"مستخبي\" منذ قرون، فالسجن على الأقل محكوم بمدة زمنية وليس عطاء مفتوحا كالمصير العربي!! أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]