كان قد تقرر ابتعاثي وخمسة آخرين لدراسة فنيات العمل التلفزيوني في لندن، ولاقيت شخصيا الكثير من العقبات وأنا استكمل إجراءات السفر، ولكن الطامة الكبرى كانت حدوث محاولة انقلابية قبل سفرنا بأيام قليلة، أدت إلى موجة عداء في الخرطوم تجاه بريطانيا لا لسبب سوى ان \"بي بي سي\" بثت تقارير عن عمليات قتل وإعدام جماعي، وهكذا تم تعليق الرحلات الجوية بين الخرطومولندن، ولم نعد نعرف متى وكيف نسافر، وكم كان ذلك محبطا: لندن عاصمة العروبة ومركز الدنيا بوصفها حاضنة خط غرينتش الذي هو خط الطول صفر الذي يُحسب الوقت في كل مكان في الدنيا قياسا عليه.. لندن بمسارحها ومتاحفها وبرلمانها العتيق.. كيف أصبحت بعيدة وقريبة المنال في آن. كنت وقتها قد خطبت فتاة وقطعت شوطا طيبا في الاستعداد لتوفير تكاليف الزواج. من باب الأمانة يجب ان أقول إنها من تولى مسؤولية توفير تلك التكاليف، ليس على نفقتها، بل بأن جعلتها مسؤولة عن إدارة شؤوني المالية، كانت لدي ثلاثة موارد مالية: الراتب الشهري من وزارة التربية ومكافأة شهرية من التلفزيون ودخل إضافي من التدريس في فصول اتحاد المعلمين المسائية، فصرت أسلمها شهريا مبلغا معينا لأنني كنت سبهلليا في الشؤون المالية ولا أعرف الادخار ولا أتعامل مع البنوك، وكان الاتفاق هو أن تصل المبالغ التي أسلمها إياها سقفا معينا فنستكمل اجراءات الزواج، ولما \"تعكّست\" سفرة لندن بسبب عقابيل الانقلاب الفاشل قررنا عقد القران، وبس.. يعني نتزوج شرعا ثم نواصل بعد الفاصل، أي نحدد تاريخا لاحقا للزفاف، وفي حفل عائلي جاء المأذون وكتب الكتاب وتناول الضيوف الطعام على عجل وبدأوا في الهرب الى بيوتهم، لأن حظر التجوال كان ساريا، لأن الحكومات العسكرية تفقد توازنها مع كل تحرك ضدها فتعاقب سكان العاصمة جميعا بشل حركتهم من مطلع كل مساء الى مطلع الفجر، وبعد انتهاء الحفل تحركت بسيارة صديق وأنا مدرك بأنني ك\"عريس جديد\" قد أقضي ليلتي حبيسا في مركز للشرطة او الجيش،ولكن ربك ستر ولم تعترض طريقنا دورية إلى أن أوصلني صاحبي الى البيت وظللت عدة أيام أفكر فيما إذا كان قراري بالزواج سليما!! لم أفكر في الأمر من زاوية ما إذا كان اختياري للزوجة موفقا بل من زاوية: هل أنا قادر على تحمل مسؤولية زوجة وعيال؟ ذلك أنني كنت أعرف أنني لا أصلح لدور الزوج التقليدي الذي يعود الى البيت عند انتهاء كل يوم عمل حاملا الصحف وبطيخة وكيسا به الجرجير والطماطم والبندول، وكانت لي علاقات اجتماعية واسعة وأساهم في الكثير من النشاطات الثقافية، وكنت مسيسا بدرجة قد تعيدني الى السجن مجددا، وكان الزواج يعني إعادة رسم خريطة حياتي بحيث تصبح الزوجة هي مركز الدائرة وأن تكون تلك الدائرة صغيرة حتى لا تستغرق العودة الى المركز وقتا طويلا.. المهم أنني مثل معظم الناس من الجنسين الحديثي العهد بالزواج، ظللت فترة طويلة لا أصدق أنني أصبحت \"متزوجا\"، وفي حالتي طالت تلك الفترة لأن المجتمع يرى أن الزواج الشرعي لا يكفي بل لابد من زفاف وزيطة وزمبليطة، وكان قد تقرر تأجيل تلك الأشياء إلى ما بعد عودتي من لندن، ولم يضايقني ذلك لأنني لم أكن أملك الموارد للمضي قدما في إجراءات الزواج، وسيعني السفر الى لندن أن يبقى راتبي الشهري كاملا في السودان، لأنني سأتقاضى نفقات الدراسة والإعاشة في لندن على حساب حكومة ألمانيا (الغربية) التي كانت من قدم لنا المنحة الدراسية في إطار الدعم الذي ظلت تقدمه للتلفزيون السوداني منذ إنشائه. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]