كان العام الدراسي الذي قضيته في لندن (1976-1977)، من أمتع فترات حياتي، فقد كان الأمر يتعلق بتفانين العمل التلفزيوني، والهوم وورك أي الواجب المنزلي يكون غالبا مشاهدة برامج تلفزيونية معينة لمناقشة محتواها وتقنياتها في اليوم التالي، وكنا طلابا من دول مختلفة: هولندا والبرازيل وايران والسعودية وكينيا وفولتا العليا (التي صار اسمها لاحقا بوركينا فاسو)، ولكن السودانيين كانوا يشكلون أكبر مجموعة بين الدارسين، واكتسبوا بين المدرسين والمعلمين في المعهد سمعة طيبة بوصفهم طلابا منضبطين وجادين، وبالتالي كان تقليدا ثابتا فيه أن يلقي كلمة الخريجين في نهاية كل عام دراسي، أمام وزير التنمية ما وراء البحار البريطاني طالب سوداني.. كان غريبا ان استمتع بالدراسة لأنني كنت قد قررت فور تخرجي في الجامعة أنني نلت كفايتي من التعليم، وذات عام خضت تجربة الامتحانات والمعاينات للفوز بوظيفة سكرتير ثالث في وزارة الخارجية، وتم قبولي، ولكن ما أن أبلغوني بأنه يتعين علي الالتحاق بمعهد التنمية الإدارية لستة أشهر لدراسة الإدارة واللغة الفرنسية حتى قلت: ما بدهاش.. خلَّصت حصتي و\"كوتتي\" من \"القراءة\" ولست مستعدا لخوض تجربة الدراسة والامتحانات مجددا، وتركت وزارة الخارجية قبل أن ألتحق بها. كانت متعة لا تعادلها متعة مشاهدة برامج تلفزيون (بي بي سي) و(آي تي في)،.. نشرات أخبار ذات صدقية عالية وبرامج حوارية يلعن فيها المتحاورون خاش الحكومة بقلب جامد، وكان الرئيس السوداني جعفر نميري وقتها يقدم بنفسه برنامجا شهريا اسمه \"بين الشعب والقائد\"، ولم تكن للبرنامج مدة معلومة: قد يستمر ساعتين وقد يستمر أربع ساعات، وكان التصور الأصلي للبرنامج ان يتلقى فيه شكاوى ووجهات نظر الجمهور حول مختلف القضايا، وفي تقديري فإنه لم يكن ليمانع في تلقي مكالمات تنتقده او حتى تشتمه، فقد كان صاحب شخصية انفعالية ولا يتردد في رد الصاع صاعين لمنتقديه في المنابر العامة، وبعنف وحدة أحيانا، ولكن شلة المنافقين كانت ترتب مكالمات كلها بكش ومدح وثناء أو استفهامية \"بريئة\"، وعلى مرِّ تاريخه منذ بدء إرساله في مطلع ستينيات القرن الماضي ظلت نشرات الأخبار في التلفزيون السوداني تفتقر الى الموضوعية والمصداقية لكونها مثل سائر محطات التلفزة العربية تخضع لتوجيهات \"الحاكم بأمره\"، ويبدو ان الرئيس الفنزويلي الحالي هوغو شافيز سمع بتجربة نميري التلفزيونية، فصار يقدم برنامجا يوميا يبرطم فيه على كيفه ومزاجه آمنا مطمئنا بعدما أسكت جميع محطات البث الإذاعي والتلفزيوني المستقلة. وكانت مجموعتنا في لندن مرفهة من الناحية المادية فقد كنا نتقاضى رواتب أسبوعية عالية على نفقة حكومة ألمانياالغربية التي قدمت لنا المنح الدراسية، وفوق ذلك كنا رتبنا لتحويل قسم من رواتبنا في السودان الى لندن وكان الجنيه السوداني يساوي وقتها قرابة جنيهين إسترلينيين، ولم يكن الجنيه السوداني وحده هو الذي يرفع الرأس، بل كان كوننا نحمل شهادات من جامعات سودانية يجعلنا موضع احترام البريطانيين العاملين في المجال الأكاديمي،.. ذلك زمان كان فيه خريج جامعة الخرطوم يقدم أوراقه لجامعات مثل كيمبردج وأوكسفورد للدراسات العليا فيتم قبوله بالمزيكة، وكنا أثناء الدراسة هناك نتناول وجباتنا بترتيب خاص في مطعم يتبع لجامعة لندن، التي كان بها عدد من القانونيين السودانيين دارسين ومحاضرين وكانوا بفئتيهم يحظون بتقدير الطلاب والمحاضرين.. وفي ظل التصنيف الحالي للجامعات العربية عموما فإن حامل البكالريوس منها يعامل في بريطانيا كحامل فيروس إنفلونزا الخنازير. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]