شعرت بوهن شديد، وآلام في العضلات (أو ما تبقى منها)، ولأنني – شأن معظم الرجال – اختصاصي في معظم الأمراض فقد تمددت على الكرسي وشرعت أشخص علتي: شوف يا ابو الجعافر.. أنت تحمل طفيل الملاريا منذ أربعين سنة وكلما تدهورت صحتك العامة طفح الطفيل، وظهرت عليك أعراض المرض وهي الفتور والصداع ثم الارتفاع في درجة الحرارة.. طيب حتى هذه اللحظة لا تعاني من صداع او ارتفاع في درجة الحرارة.. إذن فهذه بداية نزلة برد او انفلونزا البعير.. للضمان خذ حبتين بندول.. و"أديتها" قرصين بندول.. وفجأة بدأ جسمي يرتعش بقوة 5 درجات على مقياس ريختر وأسناني تصطك حتى حسبت ان عشرة أطباء أسنان يقومون بحفريات في أسناني كلها بحثا عن الفحم الحجري.. طلبت إغلاق جميع المكيفات ووضع جميع الأغطية الموجودة في البيت على جسمي.. وبدأت جبهتي تسخن تدريجيا، ثم انتقلت السخونة الى بقية أجزاء جسمي.. كيف يكون جسمي مشتعلا وأحس بالبرد في ذات الوقت؟ ما يصير.. عندي في البيت ثيرمومتر لقياس درجة الحرارة وجهاز لقياس الضغط وآخر للسكر وعندي في الصيدلية المنزلية جميع أنواع المسكنات بما في ذلك ما يصلح لإسكات آلام الأسنان والمغص المعوي والكلوي والتهاب القولون.. وكرجل من ظهر رجل رفضت اقتراحات زوجتي وعيالي بالذهاب الى المستشفى: أنا جعفر عباس الذي لا يبوس ولا ينباس أذهب الى الطبيب لأقول له انني اعاني من نوبة برد وفتور؟ عيب.. طولوا بالكم وسيتضح بعد قليل ما إذا كانت علتي نزلة برد او ملاريا، وفي كل الأحوال عندي الأدوية اللازمة التي تغنيني عن الطبيب.. فقط ساعدوني بتمسيد (تدليك) رجليَّ وظهري لأنني أحس فيها بآلام شديدة.. ومن لطف الله أنني لم أتهور كعادتي وأشرع في تناول أي دواء غير البندول.. وفجأة أحسست بأن جوقة من الدراويش تسللت الى بطني وبدأت في قرع الطبول حتى شهدت بطني تحركات مريبة كتلك التي تحدث لأم حامل في شهرها السابع.. وانفتحت صنابير القيء والنزلة المعوية، وظللت مقيما في الحمام لنحو ثلاث ساعات، وخلال كل ذلك ورغم ما كنت أعاني منه من ألم وحمى، كنت في داخلي أشعر براحة عميقة: ها هم زوجتي وعيالي يحيطون بي ويدلكون جسمي ويتحسسون جبهتي ويضعون عليها الكمادات الباردة.. لو أسعفني لساني لقلت لولدي الصغير: الآيباد الذي رفضت شراءه لك سيكون عندك فور مغادرتي السرير.. لولا القشعريرة التي كانت تخلخل كياني لاحتضنتهم جميعا.. طوال ليل بهيم لم تصدر عن أي منهم كلمة واحدة، فقد كانوا صامتين وقد توزعوا أعضاء جسمي بينهم وكل واحد منهم يجتهد كي يخفف عني الألم.. في الظروف العادية يعيش كل واحد من عيالي في عالم خاص ولكنهم اليوم وفي ساعة "العوزة" حولي.. اللهم أدمها نعمة.. كانوا في تلك اللحظة أهم عندي من كل كنوز الدنيا وملذاتها.. ومن فرط أنانيتي فقد تمنيت ان تعنس بنتاي وأن يضرب ولدي عن الزواج حتى يكونوا من حولي دائما. في اليوم التالي أتوا لي بطبيب من أقاربي، قال إنها إصابة فيروسية، وحدد لي مسار العلاج، ولكنني ظللت طريح السرير 3 أيام، وما أبكاني في اليوم الثالث هو اكتشافي ان إحدي بنتي كانت تعاني من نفس ما أعانيه، ولكنها أخفت ذلك عن الجميع، وظلت جالسة بقربي، ولم نكتشف أمرها إلا عندما شعرت ببعض التحسن في ساعة متأخرة من الليل، ورفعت رأسي لأكتشف ان عيالي وضعوا المراتب حول سريري ليناموا بالقرب مني، ولكنني وجدت مرتبة فارغة فنزلت من سريري بهدوء باحثا عن صاحب المرتبة الخالية، ووجدت ابنتي تتقيأ بعنف في أحد الحمامات البعيدة وأمسكت بها ووجدت جسمها مشتعلا من فرط ارتفاع درجة حرارته، ومع هذا بادرت هي بالصياح: بابا انت عيان روح ارقد.. أخفت مرضها عنا كي لا ينشغل الآخرون بها عني.. يا حبيبتي.. عندها تمنيت لو كان عندي دستة من العيال.. يتزوج بعضهم ويتركون بيتي، ويبقى بعضهم معي لأطول مدة ممكنة.. تذكرت أقاربي وقريباتي الذين حرموا من الذرية، ونسيت مرضي وحزنت لهم وعليهم.. تذكرت أختي فاطمة البشوشة الحبوبة التي لم ترزق بأطفال فكانت تعامل جميع أفراد العائلة كبارا وصغارا كأطفالها، ومات زوجها الذي عاشت معه أربعين سنة، ولحقت به بعد شهر واحد، وهي التي لم تكن تشكو قبلها من أي علة – رحمهما الله- ومنذ أن بدأت الكتابة وأنا أطالب بأن تكون هناك مراكز متخصصة لمساعدة وعلاج الذين يعانون من العقم بلا مقابل تماما كما الذين يعانون من الفشل الكلوي والأورام.. فالحرمان من الذرية حالة إنسانية تتطلب تدخلا إنسانيا على أرفع المستويات. [email protected]