ومن اللطائف التي يحكونها عن الرئيس الراحل جعفر نميري، رحمة الله عليه، أنه في مرحلة ما من عمر حكومته صار يحيل ملفات قضايا الناس والبلد إلى لجان، أي ما أن يأتيه أي وزير أو مدير بقضية بحاجة إلى قرار رئاسي يحيل القضية إلى لجنة، فنبهه أحد المقربين إليه إلى خطأ نهجه هذا، موضحاً له بأن هناك قضايا حلولها لاتحتمل التأخير وتلكؤ اللجان، بل يجب حسمها عاجلاً بقرار رئاسي، أوهكذا نصحه..نميري لم يكن منتبهاً للنصح أو كان مشغولاً بأمر آخر، و لذلك ما أن أكمل ذاك نصيحته، عاجله قائلاً : (خلاص كدي بعدين نشكل لجنة نشوف الموضوع ده)..فخرج الناصح محبطاً ..!! ** واليوم أيضاً جهات بالدولة تنتهج نهجاً شبيهاً كذاك، أي هناك مخالفات بحاجة إلى محاسبات حاسمة وسريعة، ولكن تلك الجهات تستبدل المساءلة بالتوجيه..ولو أي قارئ حصيف أخضع صحف اليوم وكل يوم إلى مراجعة دقيقة، سوف يجد بأن مفردة (وجه) هي الأعمق حضوراً في الأخبار.. وأحلم بصحيفة تصدر وهي لاتحمل خبراً يبدأ ب (وجهت رئاسة الجمهورية.. وجه والي ولاية .. وجه مجلس الوزراء .. وهكذا)، بين كل توجيه وتوجيه، توجيه آخر..وللأسف ما يوجهون بها هي التي يجب أن تكون بلا توجيه ..على سبيل المثال، هناك قرار بمجانية التعليم وبعدم فرض أي نوع من الرسوم على أي طالب وبعدم منع أي طالب عن الجلوس لأي امتحان بسبب عجزه دفع أي رسوم، هكذا القرار واضح كما شمس الضحى.. ومع ذلك، لا تمر ثلاثة أشهر من أي عام دراسي وإلا نقرأ توجيها رئاسياً أو وزارياً للولايات والمحليات بعدم فرض الرسوم على الطلاب .. والتوجيه لايصدر إلا بعد أن تبلغ أرواح أولياء أمور الطلاب حلاقيمهم من (هول الرسوم)..!! ** البارحة، وجه نائب رئيس الجمهورية - للمرة الألف تقريباً - الولاة ورؤساء المحليات بعدم فرض الرسوم على الطلاب، وما وجه إلا بعد تراكم شكاوى الطلاب وأولياء أمورهم على صفحات الصحف ومجالس الناس.. وبعد ثلاثة أشهر - أو أقل - سوف نقرأ توجيهاً كهذا من وزير التعليم العام، فقط ترقبوا أقرب مؤتمر صحفي أو ندوة..وهنا نسأل بكل براءة، إن كان قرار رئاسي لم يضع حلاً لقضية الرسوم،فماذا يجدي التوجيه؟.. فالمعروف في الدنيا كلها - ما عدا السودان طبعاً -هو أن أي مسؤول لايلتزم بتنفيذ قرار صادر عن المسؤول الأعلى منه، يعد مخالفاً للقرار ويجب مساءلته ثم محاسبته ولو بالإقالة في حالة تماديه في (لحس قرار مسؤوله)..ولكن في بلاد العجائب هذه، مخالفة القرارات الصادرة عن أعلى الجهات السيادية والاتحادية بالبلد ليست بمخالفة، بل تلك المخالفة أصبحت نهجاً ولائياً ومحلياً، ولذلك تخرج لهم تلك الجهات العليا بين الحين والآخر بالجودية المسماة - سياسياً وإعلامياً - بالتوجيه ..!! **لايجب أن يكون هناك توجيه في مخالفة كتلك، بل مساءلة ومحاسبة، لكي يكون هذا الوالي المخالف أو رئيس محليته عظة وعبرة لغيره ..رسوم الطرق، نموذج آخر، حيث هناك أكثر من قرار رئاسي صادر عن رئاسة الجمهورية ووزارة المالية بعدم فرض الرسوم على الطرق الولائية، ولكن الولاة ورؤساء المحليات -كأن هذا القرار لايعنيهم -يضربون به عرض الحائط ويفرضون رسومهم بمنتهى اللامبالاة واللامسؤولية، ولك أن تعلم يا صديقي بأن آخر عبقرية جادت بها عقول ولاة الأمر بولاية كسلا هي رسوم مسماة ب(رسوم دفار).. نعم إيصالها بطرفي،استلمها سائق الدفار عند مدخل محلية حلفا بقيمة (25 جنيهاً)، ولو كان يقود سيارة أخرى ربما دفعوه (رسوم لوري، رسوم بوكس .. رسوم كارو .. وهكذا اسم الرسوم حسب نوع سيارته)..هذا نموذج بدعة تتحدى رئاسة الجمهورية وكل المؤسسات الاتحادية.. والنماذج كثيرة، بحيث لاتحصى.. قرار رئاسي أو وزاري، تقابله الولايات والمحليات بظهرها، فنقرأ توجيهاً رئاسياً أو وزارياً بتنفيذ ذاك القرار، هكذا (الحسم)..ولذلك، نقترح تأسيس وزارة هامشية جديدة تحمل اسم (وزارة التوجيه للجودية والطبطبة العامة) ..!! إليكم - السوداني [email protected]