عندما يُذكرُ رواد مدرسة الحياة تنحنِي الأقلام وترْتَجِفُ حياءً ووجلاً، ومن بينهم الذين تخرّجُوا مِن بين أطلال تلك البيوت الطينية التي احتضنتهم بين طياتها، رجالٌ عركتهم الحياة، واسِتثاغوا نظرِّياتِهم مِنْ تجارُّبها، فكَانت ثَمرة ذلك قوةً وعقلاً راجحاً وحكمةً وكرماً وتِفانِى فِي خِدمة الآخرِّين، وبِعزيمة لا تعرِّفُ اللّين شقُوا طريق حياتهم بكل ثبات ونحتوا أسماءهم في قلوب المجتمع بفيض خدماتهم الإنسانية، فهم الرجال ولتسقط الرُجُوله وتهوِّى في سُفلى الدركَات إذا لم تكن من نصيبهم. خالِص العزاء وصادَق المُواساة لِكُلِ المجتمعات التي فقدت أعزاء خصهم الله لأعمال الخير وِخدمة الآخرِين.. لأن عظيم الفَقد لا يعرِفُه إلا من تجرّع كُؤوسه.. ولقد ذاقت ذلك سِلسِلة القُرى التي يشُقها النيل يُمنةً ويُسرى في ضواحِي القُولد يوم إنساب حُجاجِ بيتِ الله الحرام مِن مُزدلِفة إلى مِنى صَباح يوم النحر.. حيثُ لم تتخلّف الشمسُ عن موعدها في الشُروق، ولكِن شُروقها لم يزيل العتّمة والغِشاوة التي إنتابتَ أبصارهم بعد أن شاع نبأ وفاة إمام مِن أئمة العطاء وقامة من قامات الحلّ والربط، أجرى الله الخيرَ على يديه فلم يبخل ولم يَتوانَى فِي الإنفاق لوُجوه البر، هو رقمٌ لا يمكن تجاوزه فقد أذاب شُعلة شبابِه في قضاء حوائِج الناس فهو الوكيل المثالي والخليفة لأهل كل من غربته الظروف،هو التاجر الخلوق المرحُوم/عِبيد يُوسف كَجوك، مصابٌ قطّع أوصالنا وترك فينا حزناً عميقاً ورأينا بأُم أعيننا منبع مِن منابِع الخير ينضب معينه ورافداً قد سَكَن هدير عطائه، وشُعلة تهدِي الحيارى وتواسى المكْلُومِين والأرامِل قد انطفأت وغاصت المنطقة في ضَحضَاحِ الحُزن الدفِين. أخذت المنِيه قُوة شبابِه وفِى نفسه شغف لمواصلة مسيرة العطاء الخيرية يُريد أن يفيض بها بكل ما في وُسْعه لتخضرّ كُل السهول والأودية التي كان هو ملاذها ومرجعها بعد الله، إنقضت أيامَه الحُبلى بالعطاء وهو يتقصَى كُل أعمال البرّ فأناخت له الدنيا بخيراتها، ورغم ذلك لم تغرِّيه ملذات الحياة وسُلطانها الزائف فلم يستهوي حديث المنصات والمسارِح ولم يكن ممن دقت لهم الدفوف ونعتهم الشاشات! كلا وربُ مُحمد، بل نعتُه كل الأحشاء الجائِعة التي كان يُكمم أفواهِها، وكل القرى التي كان يواصلها في أفراحها وأتراحها ونعته قُلوب المساكِين والأيتام والأرامل والذين لا يجدون بعد الله إلا نفحات أيادِيه المتسلسلة من جِينات سالفة طوعت نفسها لفعل الخير، فلم يَترُكُوا لنا هؤلاء الغلابة صحِيح عِبارة لننعاه بها. حزنت عليه كل الدُروب والأزِقة التي كانت خطواته ترتادُها ذِهاباً وإياباً والقرية يلُفُها ثوب الظلام وتُكبِلها وحشة الليل وهو يؤدي في مهماته الإنسانية. وافتقدتهُ مجالِس الحلّ والربط، لأنه من العناصر الهامة في تلك المجالس بكلِمته وماله فهو الوسيط المثالِي عِندما تتباعد وجهات النظر بين طرفين وتنحنِى كل العقبات وتسقط صرعى أمام جبروت الأسلوب والمنطق! لذا ترك لنا فراغاً عميقاً في المجتمع، ولكن بصماته وملفاته المخضرّة باقيةً تبرُق كالألماس رغم رحيله. وقد كانت الزراعة جزءً من اهتمامه لأنها من مورُوثات آبائه وأجداده. لذا حزنت أشجار النخيل التي اتخذت موطنها على الشواطئ بعد أن كانت تُداعب النيل وترمي بظلالها على مياهه الفِضِّيه فيُراقِصُها الموج وتستكين لذلك وترمي بشبالها على الضِفة الشرقية الموازية لها بقرى أم كرابيج والزرائب وكومي .. فقد أدماها الألم وخَمدت حيويّتها ألماً وحزناً على روحٍ صعدت إلى بارئها وغيبت جسداً كانت تزِيل عناءَه عندما يَركَنُ تحت ظلالها ويُلاطِفُها ويتولى أمر سقياها. ولكن!! هذا ديدن الحياة ندخلها مرغمين ونرحل عنها مكرهين فليس لديها معايير وشروط للبقاء، لذا نسأله برحمته أن يُدخلك الفردوس الأعلى ياعُبيد الله إنه ولي ذلك والقادر عليه. طه كجوك - ثمرات من النخيل [email protected]