لا زلت أحتفظ في مكتبتي بصورة منسوخة من مقالٍ قديم كتبه جورج طرابيشي لصالح ملف تيارات بصحيفة الحياة اللندنية عدد 14 يناير 2001م (صفحة 20، العدد 13819)، تحت عنوان (الصعود الغامض لفلاديمير بوتين). وأمس بعد حملة تفتيش كبرى، حصلت على ذاك المقال حتى أنني من شدة فرحي شعرت به ك (أيقونة)، وهو في حقيقة الأمر كذلك. كان سبب احتفاظي بالمقال زهاء ثلاثة عشر عاماً هو أنني اعتبرته أشبه بروايات الواقعية السحرية، فتعاملت معه كقطعة أدبية وليس مقالاً صحفياً، وما إن وقعت واقعة أوكرانيا وشبة جزيرة القرم حتى قررت استعادته والاسترشاد به في تحليل شخصية بوتين النافذة والمثيرة للجدل، فالرجل اختلفنا أم اتفقنا – معه، استطاع أن يعيد روسيا (ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي)، كقطب قوي لا يمكن لنظرائه عدم الالتفات في إدارة شؤون هذا العالم. ولد فلاديمير بوتين في سان بيترسبورغ في 7 الأول اكتوبر 1952، كان موظفاً شبه مغمور في القسم الخارجي من جهاز المخابرات السوفياتية ثم خدم في ألمانيا الشرقية إلى أن قدّم استقالته في 1980م، ثم حرق المراحل بسرعة البرق بعد تسميته مديراً لجهاز أمن الدولة يوليو 1998، ثم أصغر رئيس للوزارة، ثم أصغر رئيس لروسيا 2000م. يقول طرابيشي: هذا الصعود المباغت في أقل من سنتين لموظف من المرتبة الرابعة إلى سدة الرئاسة قدم مرتكزاً جيداً وخصباً لانطلاق تفسرات موغلة في الخيال واللاعقلانية. فليس من قبيل الصدفة، من هذا المنظور، أن يعاود اسم راسبوتين ظهوره بإلحاح، فهذا الراهب المشعوذ والمتهتك جنسياً الذي لعب دوراً خارقاً للمألوف في التفسير الشيطاني لسقوط الحكم القيصري، وإبادة آل رومانوف على أيدي البلاشفة في مطلع القرن، عاد شبحه إلى مسرح الأحداث ليقدم تفسيراً شيطانياً للصعود المباغت لفلاديمير بوتين. يقول هذا التفسير (الراسبوتيني): إن بوتين حفيد لراسبوتين. وإن أسرته قدمت إلى سان بيترسبورغ، من بلدة (بوكروفسكايا) وهي مسقط رأس (راسبوتين). صحيح أن جد فلاديمير ليس من ذرية راسبوتين المعروفة، لكن كان لراسبوتين علاقات بالعديد من النساء، ممن وقعن تحت تأثير قدرته التنويمية المغناطيسية. وأن من عادة الآباء في روسيا أن يعطوا أولادهم اللاشرعيين بعض اسمهم، لا كله. فصارت أسرة فلاديمير تحمل اسم (بوتين) بعد إسقاط المقطع الأول من اسم (راسبوتين). وتدعيماً لهذا التعليل الاشتقاقي فإن صحافة الشائعات لم تتردد في أن تعيد نشر صور فوتوغرافية قديمة لراسبوتين، ومنها يتبين ب(جلاء) ان بوتين باستثناء اللحية يشبه شبهاً عجيباً (جده) بعينيه وترسيمة أنفه وفمه وسائر تقاطيع الوجه! هذا (التفسير) يقول ضمناً إن بوتين فرض نفسه بقوته النفسية الخارقة كما فعل راسبوتين بأسرة القيصر نيقولا الثاني وزوجته الكسندرا فيودوروفنا. الحصة الأولى - صحيفة اليوم التالي