صورة الوطن من الخارج تبدو مثيرة للدهشة.. لمن ينظر إليه عبر وسائط الإعلام التقليدي والجديد.. بعيدا عن يوميات الداخل وضجيج الحياة وضجر روتينها المحلي.. فمثلا من خلال متابعتي من هنا من القاهرة.. أشاهد في شاشات الفضائيات السودانية صورتين متناقضتين تماما.. الأولى مشاهد السيول والأمطار التي تكشف حال التخطيط العمراني في بلدنا، و(حد الأمان) الهش الذي يكابده المواطن السوداني، وهي صورة موسمية ثابتة في مقابل صورة أخرى للمشهد السياسي (الغارق) هو الآخر في يوميات الصراع البارد على السلطة والثروة.. بين هذه الصورة وتلك لا أثر للمستقبل المرتبط بحياة المواطن وكرامة معيشته. مآلات الحوار السياسي بين الأحزاب هي للبحث عن أفضل الصور لاقتسام الكيكة بين قرابة المئة حزب ليس لديها خطط للمستقبل سوى تشكيلة الحكومة والمناصب الدستورية، في وقت يكابد فيه المواطن أقسى مهانة وذل من البيئة المتخلفة في غالبية المدن والأحياء فضلاً عن القرى والأرياف. المصيبة التي قد لا يحسّ بها الكثيرون الآن أن المستقبل يصنع اليوم.. وكل يوم يمر بلا تخطيط للمستقبل يضيع من ورائه سنة من عمر الأجيال القادمة.. فإن لم يكن في الذهن الوطني صورة للمستقبل فستدفع الأجيال القادمة ثمن ذلك؛ لأنها وبعد سنوات ستجد نفس الحال في السيول والأمطار تغني (ترسوا البحر صددوا). والعلة الحقيقية أن من يخطط للمستقبل في بلدنا هم الساسة الذين يحتكرون حق التفكير، ويديرون كل الشأن العام فيختلط حابل التكتيك مع نابل الإستراتيجي. انظر جيداً في مسلسل السيول والأمطار ستجد أن الساسة هم المهندسون والفنيون.. بينما المهندسون هم الساسة الذين يبررون ما حدث، ويصنعون له الحجج والمبررات. السودان بلد (غارق) ليس في السيول والأمطار بل في السيولة والانحدار.. كل النقمة التي يعانيها هي في الحقيقة نعمة لا نعرف كيف نديرها، كل مقومات البلد المتقدم الرائد متوفرة في السودان، ومع ذلك لا نستفيد، ولا نفيد، ولا نترك أحداً يستفيد من الموارد الطبيعية المترفة، فمع سعة الأرض في السودان فهي أغلى من مدينة طوكيو أضيق مكان في العالم بسكانه.. ومع توفر الأراضي الزراعية والمياه لا يكاد يشيد مشروع زراعي إلا على أسنة الرماح وحتى يراق على جوانبه الدم.. وحتى المستثمرين الأجانب الذين تقذف بهم الأقدار إلى بلادنا، ونمنحهم الأراضي الزراعية لا يستطيعون الوصول إليها، إما بتعقد الإجراءات، أو (عكاكيز) مواطنين يحرسون أرضاً ظلت بورا منذ أن خلق الله الأرض، وستظل إلى أن يرثها. بدلاً عن مستقبل الساسة.. ابحث عن ساسة المستقبل. حديث المدينة - صحيفة التيار [email protected]