انقضت خمسة أشهر دون أن يفضي الحوار إلى ما هو مأمول منه، ما يطرح سؤالا لا يخلو من خبث؛ حول ماهية ما كان يرومه حزب الحكومة عشية جمعه لنفر من خصومه في قاعة الصداقة مع كثير من الزهد حيال الذين اعتزلوا المكان. ويزداد السؤال إلحاحا مع حزم الوطني لحقيبته السلطوية متوجها ناحية البرلمان لتعديل قانون الانتخابات معطوفا على الدستور الانتقالي في ذات اللحظة التي يؤكد فيها قادته تمسكهم بالحوار دون أن يجيب أي منهم: لماذا وعلى ماذا سيحاورون خصومهم؟ قبل أن يتدخل الرئيس البشير ليعلن قبل أيام أن دعوتهم هدفها إيجاد مخرج لأحزاب المعارضة وليس حزبهم الرائد. لا يختلف اثنان حول أولوية الحوار الوطني لصالح أي عملية سياسية في أي بلد حتى لو كان غارقا في الإرث الديمقراطي دع عنك العملية المتكلسة في بلاد النيلين التي كبر على نخبتها التواضع على دستور دائم منذ الاستقلال وبالتأكيد ستزداد تكلسا لو تكشف في خاتمة المطاف أن الحوار لا يعدو أن يكون تعديل قانون الانتخابات والدستور بمشاركة 165 حزبا سياسيا ومنظمة مجتمع مدني يحتاج رؤسائها لتعريف، هذا إن وجدوا بالأصل. عندما طرح الحزب الحاكم دعوته كان التحدي الأساسي وعامل النجاح الرئيس المجمع عليه أن لا تكون الدعوة مجرد تكتيك تقضي عليه المزايدات السياسية من أطراف اللعبة السياسية التي لا تدمن شيئا كما تدمن المزايدات وكل منها يسعى لتبرئة ساحته دون أن يكترث أحد لتبرئة الوطن. ولذا كان غير مقنع لدى كثيرين من داخل المعارضة أن يكون من ضمن الشروط لقبول الدعوة تشكيل حكومة انتقالية وإلغاء القوانين المقيدة للحريات باعتبارها الأجندة محل الحوار، وذهب إلى ذلك الحزب الحاكم الذي رأى في الشروط مجرد مزايدة، لكنه بعد أسابيع كان مضطرا لإثبات أن دعوته أيضا ليست مزايدة وأجهزته تحتجز الصادق المهدي الذي يكاد يكون مردافا لغويا للحوار من فرط ما دعا وعمل له. اعتقال المهدي منح مصداقية للذين تمنعوا عن قبول الدعوة، وكان خصما على مصداقية الحزب الحاكم والتي اهتزت أكثر بعد أن نصب بعض قادته أنفسهم متحدثين باسم حزب المهدي وهم يؤكدون عدم انسحابه من عملية الحوار التي لا قيمة لها إن لم يكن الرجل ضمن عناصرها. لكن الأسوأ أن ما لحق بالمهدي وما سيلحق بقانون الانتخابات وبعدهما الدستور يؤكد، لا محالة، أن الوطني لم يكن يريد من دعوته غير توفير تغطية لولاية انتخابية جديدة لا يهمه إن سابق فيها نفسه وهجرتها بقية القوى السياسية طالما أن إحدى أماناته تضم 165 حزبا ومنظمة مجتمع مدني. وبالطبع فإن المؤتمر الوطني يدرك أكثر من غيره أن أمانته الحزبية هذه لا قيمة لها لسبب بسيط أنه لا وجود لها في أرض الواقع ولا يمكن أن يصنف فعله هذا إن تمادى فيه بأي شيء خلاف كونه مزايدة، ومكرورة أيضا. والحال كذلك، لم يعد متاحا لحزب الحكومة رمي خصومه بالمزايدة حتى وإن كانوا في ضلالتها يعمهون، ويمكنه أن يثبت قولا أن المهدي متمسك بالحوار لكن يستحيل عليه إثبات ذلك فعلا، وهو ما يترتب عليه خوضه في مزايدة ثانية مطابقة لمزايدة الإنقاذ الأكثر شهرة عندما عمدت إلى تنصيب النور جادين إماما للأنصار في سنينها الخوالي. وبالشواهد الماثلة ودون مواربة، سيمضي الوطني إلى الانتخابات وستذهب به صناديقها إلى دواوين السلطة التشريعية والتنفيذية وسيكون سهلا عليه التحجج بأنه دعا المعارضة إلى الوفاق فخذلته، لكن ما سيكون عسيرا عليه أن يجد نفسه مضطرا لدعوتها لاحقا إلى الحوار لأنه لا سبيل أمامه وقتها غير الإذعان لمزايداتها. فالشاهد أن الإنقاذ لم تعد قادرة على أن تكون الإنقاذ حتى وإن كان هدفها وبالغ همها إيجاد مخرج لخصومها. اليوم التالي