ما زلت أذكر تلك الأيام جيداً، وجدتي تحمل بين يديها صاج العواسة وجردل (العجين المر)، قبل أن تتخذ مكانها في ذلك (الزقاق) كما يسمونه، ما زلت أذكر سؤالي لها: (ياحبوبة انتي ليه ما بتعوسي في الحوش).؟.. لتتجاهل السؤال وتشير الىَّ بيدها نحو ذلك الكيس الصغير الملفوف بعناية، وهي تقول: (ياولد.. بطل غلبة وجيب لي الطايوق داك)، دقائق معدودة، ويتحول الزقاق الى فرن مصغر، ينبعث دخانه الأبيض من فوهات ذلك الكانون القديم، واصابع جدتي تمسح الصاج بذلك (الطايوق) قبل أن تسكب عليه بعض العجين ثم تُخرج (القرقريبة) من ذلك الاناء الممتلئ بالمياه وتبدأ فعليا في اكمال مراسم الوجبة. (1) كل ذلك يحدث أمامنا ونحن نراقب في دهشة، التحضير لعملية صناعة الكسرة وحتى وضعها في طبق أبيض نظيف على صينية الغداء وبجانبها عدد من (الطبائخ السودانية) او ما يعرف ب(الملحات)، بداية من (الخدرة) المفروكة وحتى (ام رقيقة) أشهر (ملاح) سوداني في ذلك الوقت، لكن فجأة تغيرت المشاهد، وأصبح من النادر جدا أن يشاهد الجيل الجديد تلك المراحل، فالعلاقة الحميمة التي كانت تربط الجيل القديم مع طقوس الكسرة، صارت اليوم ذكريات من الماضي، بعد أن غابت تلك النكهة السودانية الخالصة عن البيوت، وصارت الكسرة في كثير من المنازل وجبة نادرة لا تحتاج لكثير من العناء، سوى الحصول عليها جاهزة من احدى البائعات اللائي ظل عددهن يتناقص بصورة مخيفة. (2) وقبيل اسابيع تخرج للرأي العام دراسة من داخل احدى الندوات المجتمعية التى تناقش العديد من عناصر المجتمع السوداني، وتحمل تلك الدراسة تكهناً مخيفاً بغياب الكسرة عن الظهور في العام 2017، ذلك التكهن الذى قللّ كثيراً من حظوظ الكسرة في البقاء قيد التناول، بينما لا يجد الجيل الجديد اي غضاضة في ذلك الغياب، بل تذهب بعض الفتيات لتعلق على الموضوع بعبارة في غاية اللامبالاة وهي: (ياخي خليها تندثر.. احسن ذاتو)، بينما يرفض عدد كبير من ابناء الجيل القديم مجرد فكرة عدم وجود الكسرة على المائدة السودانية ناهيك عن أن تغيب بشكل كامل عن الظهور، تلك المفارقات التي تجعل من امر تحقق تكهنات تلك الدراسة امراً لا يستوجب غير الانتظار لحين ميقاته. (3) عدد من اساتذة علم المجتمع في السودان لم يندهشوا لتراجع مملكة الكسرة ولكنهم ابدوا اندهاشهم بحالة تغيير الجلد التي طرأت على المجتمع السوداني، وسرعة التقبل لكل ماهو جديد، واهمال القديم، بينما ذهب الباحث الاجتماعي محمد الخليل الى أن تطور العصر، أسهم بصورة كبيرة في تثبيت مفهوم الوجبات السريعة او ما تعرف ب(التيك اوي)، والتي تسببت في إحداث شرخ كبير، ليس في غياب الكسرة وحسب بل في كل الوجبات السودانية الاصيلة، وابدى (الخليل) تخوفه من ذلك الغياب لتلك الموروثات السودانية التي ظلت تميزنا عن غيرنا من الدول. (4) عموما سجلت مملكة الكسرة تراجعا وغيابا مثيرا عن المائدة السودانية في السنوات الاخيرة، أسهم في ذلك عدم المام الجيل الجديد بأهمية الدور الذي تلعبه تلك الوجبات السودانية الاصيلة، في التعريف بثقافة البلاد، وابتعاد كثير من الفتيات عن ممارسة تلك الجزئية بسبب انشغالهن بالتعليم والتحصيل الاكاديمي، حتى أن نسبة الفتيات اللائي لا يزلن يحتفظن بسر وطريقة عمل الوجبة التاريخية لا يتعدى ال(25%)، وهي نسبة قليلة جدا تؤكد أن مملكة الكسرة تلفظ أنفاسها الاخيرة، وتستعد للرحيل تاركة المواطن السوداني للوجبات المستوردة وساندويتشات (التيك اوى)، لنشهد بذلك على بداية رحيل مملكة سودانية جديدة، ضمن عدد من الممالك الاخرى التي غابت بأمر التطور والتكنولوجيا والحضارة والتي لم تستثن حتى الاكلات السودانية الضاربة في الجذور. صحيفة السوداني