تحركت مي بسيارتها الفارهة تسابق المطر.. منذ أن كانت طفلة تخشى صوت الرعد.. السماء تخزلها وتمطر بغزارة.. الطريق يبدو خالياً في هذا المساء المترع بالمياه.. قفزت في ذهنها صورة ابنتها الوحيدة بسمة.. حملت بسرعة الهاتف الجوال أرادت أن تتواصل مع أمها لتطمئن على الصغيرة.. الأم من الناحية الأخرى تعاجلها بالسؤال عن نتيجة مقابلتها مع الطبيب.. ضحكت من شفقة أمها.. رغم أنها وصلت الأربعين إلا أن أمها تتعامل معها على أنها مجرد طفلة.. وضعت الهاتف وسألت نفسها كيف كان يمكن أن تكون حياتها دون ماما ليلى. الخوف يجعلها دائماً تتذكر تجربتها الفاشلة مع الزواج.. رغم مرارة التجربة إلا أنها تشعر أنها تحتاج إلى رجل.. ماما ليلى دائماً تعارضها.. تطلب منها أن تكون راهبة.. لكنها تشعر أنها أنثى.. طبيب الأسنان غازلها في هذا المساء.. تعاملت معه بحسم تحت مظنة أن الرجال لا يحسنون الظن بالمرأة المطلقة.. ما زالت مي تسابق المطر الغزير.. لاح شبح في الظلام الدامس.. حاولت قدر الإمكان أن تتفادى الاصطدام به.. في هذه اللحظة فقدت السيطرة على العربة.. انحرفت العربة إلى الاتجاه المعاكس ثم توقفت في فضاء متسع ومغمور بالمياه. حينما رأت الطريق خالياً همت بالهروب.. نور العربة الساطع جعلها تنظر إلى ضحيتها.. بشراً سوياً يتحرك ويئن من الألم.. انتصر ضميرها وتوقفت لإنقاذ المجني عليه.. كانت ترجف واستشعرت أن شيئاً خرج من بين السبيل.. توقفت عربة وأخرى لاستكشاف ما يبدو حادث حركة.. الإضاءة الكثيفة قهرت الظلام الحالك.. حينما اقتربت مع الآخرين من وجه الضحية أحست أن الوجه الدامي ليس غريباً عليها.. بدا الضحية رجلاً خمسيني يرتدي ملابس رثة.. تحدث أحد الحاضرين وأفتى أن الشخص المجهول يبدو معتوهاً كان يحاول أن يهرب من المطر الكثيف.. المعتوه يفتح نصف عينه، وينظر إلى السيدة التي كادت أن تقتله، ويهتف "مي.. مي". ثم يصمت.. في هذه اللحظة ترتمي مي على فتاها، وهي تصرخ و(تسكلب)- كعادة السودانيات عند المحن.. بدأ كل شخص من الحضور ينظر بدهشة إلى الآخر. في الطريق إلى المستشفى أصرّت مي أن تحتضن الشاب الذي يسيل دماً في الصندوق الخلفي لسيارة أحد المواطنين.. شعرت بإلفة ومتعة، والرأس الدامي على فخديها.. آه مضت نحو عشرين عاماً على آخر لقاء مع محمد خير الشيخ.. كان أول الدفعة في كلية الاقتصاد.. بدأت تتذكر كل شيء.. كان أول حب في حياتها.. كانت ثرية، وكان فقيراً يمتلك قميصين وجزمة بالية.. دخلت إلى محيطه؛ لأنه كان شاطراً.. لم تستطع أن تصارحه بمشاعرها.. انتهى العام الدراسي الثالث، وغاب ود الشيخ- كما كان يلقبه زملاء الدراسة.. كان غيابه لغزاً.. حتى اضطرت الكلية إلى الاتصال بأسرته.. جاءهم الخبر أن زميلهم أصيب بالجنون. في الصباح انتهت الفحوصات الطبية إلى أن ضحية الحادث بخير، فقط يحتاج إلى راحة واستجمام.. في هذه اللحظة اتخذت مي قرار استضافة المعتوه في منزلها في حي الفردوس.. بدا لها ود الشيخ مثل طفل.. كانت تشتري له الملابس، وتحضر له الطعام.. الحياة عنده انتهت بالسنة الثالثة في كلية الاقتصاد.. لا يتذكر شيئاً بعد ذلك.. قالت مي لنفسها: ما أروع أن تتوقف الذاكرة عند الأيام الجميلة. أمس الجمعة توقفت عربة بوكس أمام بيت أمل في الصافية.. أهل ود الشيخ حضروا من القرية ليأخذوا ابنهم الضائع.. بكت مي بشدة حينما دس الطالب النجيب بين يديها كراسة فيها معادلات اقتصادية قائلاً: "الامتحان ما ح يطلع من هنا". عبدالباقي الظافر-التيار السودانية