بالامس ..امتلات رئتي بهواء الصباح العليل محملا بنسمات الشتاء الباردة ..شئ ما يجعلك تحس بالفرح ..وبالترقب وانتظار شئ جميل ما سيحدث اليوم ..رغم ان خارطة الواقع تقول غير ذلك فجدول العمل مزدحم بأشياء كثيرة. يبدو انني خرجت باكرة ..لا احد في الشارع غير ادم وهو يغازل (صاج الطعمية)..ويدندن مع المسجل ... عندما تقدمت الى بداية الميدان وجدت مجموعة من صديقاتي الصغيرات ..طالبات الداخلية ..كانت الفرحة تشع من وجوههن (ترى هل الفرح معدي؟؟ ).. كن يضحكن جزلات عندما مررت بهن ..يحاولن التقاط صور (سلفي) مع سيارة جديدة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ... ...استوقفتني احداهن (اتفضلي يا خالتو ..ممكن نوصلك معانا ..نحن شايفنك كل يوم بتمشي على رجلينك في الشارع ) رجليك نطقتها بالجيم المعطشة وقبل ان أرد عليها ..قلت في نفسي (طالعة من بقك زي العسل والله).... قالت الاخرى ( أصلو رسيل جابوا ليها عربية هدية ...الحمدلله خلاص حنرتاح من عمو بتاع الركشة )..والشين معطشة ايضا ' شكرتهن معتذرة بان المشي خيار اخترته بكامل قواي العقلية فبامكاني الذهاب بالترحيل. تحركت من امامهن وتركتهن يواصلن الاحتفال بالعربة الصفراء الجديدة. تركتهن وهن لم يتركنني ...فلمبة عبقرينو قالت لي ..أذكر أنني قرات في مكان ما عبارة (أغدق المال على ابنتك لكيلا تحتاج ..واحرم ابنك من المال لكيلا ينحرف)..ولكن هل يصل الاغداق الى هذه الدرجة ؟؟ ان تبتاع لابنتك عربة وهي في السنوات الاولى من الجامعة ؟؟. كثيرا ما اتساءل ماهي الحدود الفاصلة بين المعاملة الحسنة و(الدلع) ..ولماذا نجد انفسنا نحيط ابناءنا بسياج من الحرص يصل الى حد الافساد غير المتعمد؟؟؟ أعتقد ان الأمر يعزى الى ناحية ان هؤلاء الابناء قد نشاؤا في بيئة سلسة الحركة وسهلة المعيشة فنخاف عليهم من (الهوا الطاير) وننسى انه لتنشيط المناعة لابد من التعرض للمرض ولو بصورة خفيفة على طريقة الفاكسين . اذا رجعنا بذاكرتنا الى الوراء لوجدنا انه لولا سنين التقشف في الجامعة و(دردرة) المواصلات و(مباصرة) المصاريف ..ولمة (الفتة والسخينة) لولا تلك الاشياء لما أصبحنا هاهنا ولما ازدحمت منحنيات الذاكرة بكل تلك التفاصيل الجميلة . عندما ذهبت للدكتوراة في المانيا ..كل طلاب الجامعة الذين لم يتخرجوا بعد كانوا يعملون بدوام الساعات لتغطية مصاريف السكن والاعاشة ..هناك التقيت بمن يعمل في المطاعم ومن يعمل في مصانع السيارات وفي المقاهي ..شباب وشابات زي (الورد) ..اخذوا من الاوربيين جدية العمل ولا زالوا يحتفظون بعفة وكرامة السودانيين. اعلم تماما ان اهل تلك الفتاة يريدون لها الخير وكذلك ان تتفرغ للدارسة ..فلا تقضي أغلب الوقت في المواصلات ..ولكن في المقابل ستتخرج بدون ان تختبر شيئا من الحياة العامة التي يعيشها بقية البشر... فالجامعة فترة مهمة لبناء الشخصية وتجهيزها لمصادمة الحياة ..فكلنا تعلمنا في الجامعة كيف نحافظ على المصاريف لنهاية الشهر خاصة نحن ابناء الأقاليم وقد اتينا الى الخرطوم في زمن لم تكن فيه التلفونات متاحة ولم تظهر الجوالات دعك من وسائل الاتصال الحديثة من واتساب وفيسبوك. في ذلك الزمن لم يكن امامك اذا خلا جيبك من المال الا ان تتقاسم ما بحوزة زميل الغرفة الى حين ميسرة فتعلمنا كيف نحافظ على المال وعرفنا قيمة الاصدقاء والاخوان . لا أستطيع ان أسقط ما عشناه نحن وتعايشنا معه على ابناء هذا الجيل فكل زمن له اهله ولكني اهمس في اذن أخوتي واخواتي المغتربين ..دعوا ابناءكم يعيشون الحياة بتفاصيلها ..دعوهم يرتكبون المواصلات ويمتطون الركشة..ياكلون الفتة ويجهزون البوش... دعوهم يعيشوا في السودان فهم سودانيين ..بعد ان كتبت هذا المقال ..وانا ابحث عن خاتمة له ...سمعت سعدية النكدية تقول لي ( والله جنس حسادة عليك )...ولكني لم املك غير الابتسام ..ومن على البعد ادم يغني ( ما كنت دايرة أقولها ليك ...لكن لسان الحال غلب)..وووصباحكم خير