المنظمات وديوان الزكاة وجهات حكومية تفك أسر ثمانية آلاف سجين أكاديمي يدعو لحبس المعسر وعدم الصلاة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين وزير العدل الأسبق: عدم تحديد مدة حبس المعسر يخلق إشكالات كبيرة نبيل أديب: الشريعة الإسلامية بريئة من حبس المعسر والفكرة مأخوذة من قانون حمورابي من المفارقات الغريبة التي تحتاج الى وقفة متأنية ودراسة عميقة فيما يتعلق بقضية المادة 179 المتعارف عليها ب”يبقى لحين السداد”، أن ما تصرفه الدولة على النزيل الواحد خلال العام يتجاوز في كثير من الحالات المديونية التي تسببت في الزج به وراء القضبان. وهنا تكفي الإشارة لثلاثة أمثلة فقط لنصل إلى هذه الحقيقة، فأحد النزلاء ظل حبيساً لجدران السجن منذ العام 2003 بسبب مديونية تبلغ 28 ألف جنيه، أما ما صرفته الدولة عليه فقد بلغ 248 ألف جنيه، وسجين ثانٍ بلغت تكلفة إعاشته 180 ألف جنيه رغم أن مديونيته تبلغ أربعين ألف جنيه، أما الثالث فقد كلف الخزانة العامة 45 ألف جنيه رغم أن مديويته تبلغ 36 ألف. إذن مجدداً نعود الى ملف “يبقى لحين الممات” والذي تكشف بعض من أرقامه أن الموقوفين خلال ثلاثة أعوام بسجن الهدى بلغ عددهم ثلاثة آلاف وتسعمائة وواحد وعشرين نزيل تبقى منهم ألف وأربعمائة وثمانية وسبعون، وتبلغ مديونيتهم نحو ثلاثمائة وستة وتسعين مليون جنيه. الأرقام لا تكذب ولا تتجمل كشف المتحدثون في ورشة “حبس المدين لحين السداد ومبادئ حقوق الإنسان” التي نظمها كرسي جامعة النيلين لحكم القانون ومكافحة الفساد أمس، عن الكثير من الأرقام والإحصاءات التي توضح عمق هذه القضية التي تمضي كل يوم بحسب من اعتلوا المنصة في تنامٍ يثير المخاوف ويعبر عن الواقع الاقتصادي المتردي بالبلاد، وهنا دعونا في البداية نركز على الورقة التي أعدها مدير الإدارة العامة للسجون والإصلاح الفريق شرطة حقوقي أبوعبيدة عوض سليمان وذلك لأنها حملت بين ثناياها أرقاماً توجب التوقف عندها كثيراً، وتأكد من خلال المعلومات التي حوتها أن هذه الإدارة لم تنتهج سياسة دفن الرؤوس في الرمال بالابتعاد عن كشف الحقائق مجردة، فقد جاءت ورقتها شاملة ومستوفية لكافة أركان قضية يبقي لحين السداد ما يؤكد أن إدارة السجون باتت مثل غيرها تبحث عن حلول جادة لهذه الأزمة التي جعلت سجونها تنوء بكثافة الموقوفين على زمة قضايا مالية، ولتكن البداية بالإحصائية التي أوضحت أعداد نزلاء يبقى لحين السداد بمدينة الهدى الإصلاحية حيث بلغوا في أعوام 2013 – 2014 – 2015م حوالي 3921 نزيلاً، تفاصيلها على النحو التالي: 922 تحت طائلة المادة 179 و250 نزيلاً بسبب النفقات و332 زجت بهم أموال الديات في السجن، بالإضافة الى 2417 من المديونيات التي تندرج تحت أخرى. وتشير الورقة إلى أن عدد نزلاء مدينة الهدى الإصلاحية بلغوا 5749 نزيلاً منهم 1478 من سجناء الحق الخاص بنسبة تتجاوز 25%، وأكدت إدارة السجون ارتفاع أعداد نزلاء الحق الخاص مقارنة بالأعوام السابقة. ورغم أن إحصاءات إدارة السجون كشفت عن واقع من هم بمحبس الهدى ولم تورد سجناء الحق الخاص بالسجون الأخرى إلا أن الأرقام التي أوضحتها تؤكد أن أعداد سجناء الحق الخاص كبير. ثمانية آلاف غادروا السجون وتمضي إدارة السجون في إحصاءاتها الدقيقة والمرتبة وتوضح أن الذين أطلق سراحهم منذ العام 2013 الى العام 2015 بلغ عددهم 8683 نزيلاً، حيث تكفلت جهات حكومية مختلفة بإطلاق سراح 1214 نزيلاً، ولم يتم توضيح هذه الجهات التي يأتي جهدها مجتمعة متواضعًا مع ما بذله ديوان الزكاة خلال هذه الفترة الزمنية حيث تمكن من الإسهام في إطلاق سراح 5584 نزيلاً ورغم ذلك فإن كثيرين يؤكدون أن الديوان كان عليه إطلاق المزيد من سجناء الحق الخاص لما يمتلكه من إمكانيات مادية ولوجد مصرفاً شرعياً محدداً وهو الغارمون، وأيضاً جاء عطاء منظمات المجتمع المدني متوفقًا على الجهات الحكومية رغم أنها دون المستوى المأمول من شعب عرف عنه إغاثة الملهوف وفك ضائقة المحتاج حيث بلغ عدد الذين أطلقت سراحهم منظمات المجتمع المدني 1885، ويلاحظ من الإحصاءات ارتفاع أعداد الذين يتم إطلاق سراحهم من عام إلى آخر وهذا يعني ارتفاع الوعي بهذه الشريحة وقضيتهم التي أجمع المتحدثون أمس أن آثارها الاجتماعية أكثر خطورة من الاقتصادية، ويعود هذا الى الجهود المبذولة من قبل إدارة السجون وتنسيقها واتصالها بعدد من الجهات الرسمية والشعبية، وهدفها فك عسرة النزلاء بالإضافة الى تخفيف حدة الاكتظاظ التي باتت عنواناً بارزاً لعدد من السجون القومية بالبلاد، ولذات الغرض فإن إدارة السجون كونت إدارة خاصة تحت إشراف ضابط للاستماع الى قضايا النزلاء والعمل على حلها بالطرق الإدارية وتسهيل كل إجراءاتهم القانونية بالمحاكم. الإحصائية المفزعة من الإحصاءات التي قدمتها إدارة السجون والإصلاح ولفتت نظر الحضور أمس واستحوذت على اهتمامهم تلك المتعلقة بتكلفة الخدمات التي تقدم لنزلاء مدينة الهدى وهي الغذاءات والملابس والعلاج والنقل والترحيل والبرامج التعليمية والتثقيفية حيث تبلغ في العام الواحد 34 مليون جنيه، منها 32 مليون جنيه توجه ناحية الغذاء ونصف مليون جنيه لشراء الملبوسات، وأشارت إدارة السجون الى أن هذا المبلغ يأتي خصماً على ميزانيتها في فصله الثاني وأن هذا ألقى بظلاله السالبة مسهماً في توقف الإنشاءات وأعمال الصيانة باستثناء الحالات الطارئة، بالإضافة الى عجز التمويل للمشروعات وعدم إمكانية شراء أصول جديدة، وجأرت إدارة السجون بالشكوى من هذه المنصرفات التي اعتبرتها عبئاً يثقل كاهلها، وعلق طلاب كلية القانون بجامعة النيلين الذين شكلوا حضوراً أنيقاً أمس بقاعة الصداقة على هذه التكلفة بصورة ساخرة حينما اعتبروا أن هذا المبلغ يكفي لإطلاق سراح نصف نزلاء الحق الخاص. الشيكات تتصدر من الأرقام التي توضح أن الباقين لحين السداد بالسجون ليس جميعهم من المتهمين بتحرير شيكات بدون رصيد تلك التي توضح تفاصيل النزلاء ومحكومي الحق الخاص، حيث يبلغ عدد المحبوسين بسبب تحرير شيكات 425 نزيلاً بمبلغ 162 مليون جنيه، أما محبوسو الديات فقد بلغ عددهم 104 بجملة مبلغ ثلاثة ملايين جنيه، وكذلك النفقات الشرعية الذين بلغ عددهم 74 بسبب 701 ألف جنيه، ثم الإيجارات وبلغ عددهم 20 سجيناً بسبب مبلغ إجمالي 81 ألف جنيه، ثم السرقة بمبلغ مليون جنيه. أما ثاني الأرقام من العديدة الكبيرة فتتمثل في محبوسي جرائم الأذى الذين بلغ عددهم 135 سجينا بسبب غرامات وتعويضات أوقعتها عليهم المحاكم وتبلغ 2 مليون جنيه، بالإضافة الى جرائم متفرقة سجن بسببها 622 مواطنا وقيمة مبلغها 225 ألف جنيه، ليصبح إجمالي المبلغ المطلوب من 1475 سجينا 396 مليون جنيه. الآراء تتباين جاءت الورشة التي كان وزير العدل والنائب العام من أبرز حضورها متباينة في الآراء ، فتيار رأى أن الباقين الى حين السداد ضحايا لإفرازات الأوضاع الاقتصادية المتردية وأنهم يدفعون ثمن عدم مواكبة القوانين السودانية للمتغيرات التي طرأت على المجتمع والجريمة والمعاملات المالية، فيما وقف تيار على الضفة الأخرى من النهر ودمغوا الباقين الى حين السداد بارتكاب جريمة في حق أنفسهم والمجتمع وأصحاب المال، وقال وزير العدل وعميد كلية القانون الأسبق د. عبد الله إدريس إن حديث الفقهاء في شأن حبس المدين يكون غير مفيد في بعض الأحيان لأن حبس المدين المعسر لا يستقيم وكان على الفقهاء عندما أفتوا بحبسه الرجوع إلى سماحة الفقه الإسلامي الذي فيه نص صريح يقول (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، وهنا الإفتاء بحسبه لا يستقيم وكان على الفقهاء أن يميزوا بين من يستطيع أداء ما عليه من دين ومن لا يستطيع . وأكد د. عبد الله في الورقة التي شارك بها في الندوة أن واقع الحال للمحبوسين يؤكد أن السواد الأعظم منهم معسر وعاجز عن سداد ما عليه من مطالبات وهذا يحتم إعادة النظر في عقوبة إبقاء المدين حتى السداد رغم وجود اتجاهين أحدهما يقول بالحبس ما دام أخذ المال وآخر يرفض الحبس، وأشار عبد الله إلى أن العقوبة ليست هدفاً وعدم تحديدها بفترة زمنية محددة وتركها مفتوحة يخلق إشكالا ولتفادي ذلك يجب عمل موازنة بين مصلحة المدين والدائن، وأضاف إن لم يحقق القانون هدفه يصبح نوعاً من التشفي، وزاد: إن كل المقبوضين ليسوا محتالين وكثير منهم هم ضحايا، ونبّه إلى ان الصرف على غذاء وعلاج وكساء المحبسوين بسبب الديون في السجون البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف تتحمله الدولة وهو أكبر من المبالغ التي حبسوا بسببها، وقال إن الإعاشة وحدها تكلف الدولة (28) مليونا سنوياً مشدداً على ضرورة عمل موازنة بين واقع الحال وما يقول به الفقهاء في حبس المدين، وطالب بالعودة للعمل بما كان يُعمل به قبل عام (1983م) بأن يكون الحبس لفترة معينة . وفي ذات السياق برأ الخبير القانوني نبيل أديب الشريعة الإسلامية من عملية حبس المدين المعسر التي قال إن منشأها مأخوذ من قانون حمورابي الذي كان يسمح باسترقاق أو استعباد الدائن للمدين العاجز عن السداد بأن يعمل لديه حتى يكفي دينه، وأكد ان هذا النص الآن مترجم في المادة (243) مادة يبقى لحين السداد والفارق بينها وبين قانون حمرابي فيه الاسترقاق، وقال أديب: هنا يتم سجن المدين المعسر والدولة هي التي تدفع تكاليف الحبس، وزاد: المسألة أصبحت بسلب المدين حريته، وفقد الدائن ماله في حين أن دستور (2005) يمنع حبس المدين المعسر وحمّل اديب الجهاز المصرفي مسؤولية حماية الشيك المؤجل لأن جزءا كبيراً من الموجودين في سجن الهدى الآن هم ضحايا لهذا النظام المصرفي، وطالب نبيل في ختام حديثه بأن يتم التعامل مع الديون بطريق القانون المدني وإبعاد القانون الجنائي. وفيما طالب القانوني الطيب العباس بإنشاء صندوق مساهمة قومي لحماية المعسرين ترعاه الدولة ضمن سياستها لإصلاح الاقتصاد وتساهم فيه الزكاة والضرائب والجمارك وكل النوافذ المتحصلة في الدولة التي حملها مسؤولية وجود الأعداد الكبيرة من المدانين المعسرين بسبب سياساتها الاقتصادية التي تعتمد على الجبايات ومصادرة رؤوس الأموال، وطالب الدولة بأن تتدخل لمعالجة هذه المشكلة . من جانبه فاجأ أستاذ أصول الفقه بجامعة النيلين المنظمة للندوة د. إبراهيم عبد الرحمن إبراهيم المشاركين والحاضرين في الندوة بفتوى خلال تعقيبه على ورقة حبس المدين لحين السداد في الفقه الإسلامي، حيث قال إنه يؤيد حبسه بل ويفتي بأن يحبس حتى الموت وألا يصلى عليه ولا يُدفن في مقابر الملسمين، وقال: هناك كثير من المدينين المحبوسين يماطلون في سداد ما عليهم من دين، وطالب إدارة السجون بأن لا تميز في المعاملة بينهم وأن يكون الطعام المقدم إليهم موحدا مكوناً من الفول والعدس وعيشة واحدة وزاد الآن إدارة السجون تطعم البعض طعاماً خاصاً وآخرين فول وعدس . من جانبه أبدى سمير أحمد قاسم مقدم ورقة اصحاب العمل في الندوة رفضهم إلغاء المادة (179) أو تعديلها، وقال إن هذا ينطوي على كثير من المهددات لبيئة الاستثمار لأن هذه المادة تعتبر الضمان الوحيد في التعامل وحماية أموال المستثمرين، وقطع بأن الوقت غير مناسب للقيام بهذا الإجراء مؤكداً أن التعديل أو الإلغاء يكون كارثيا، مبدياً خشيتهم من أن يؤدي لانهيار التنمية والاقتصاد، وأنهم كاتحاد لأصحاب العمل السوداني يضم عددا من القطاعات الصناعية يرون أن صلاح الأمر والمصلحة العليا واستواء ميزان العدالة والاستقرار الاقتصادي في الابقاء على الوضع على ما هو عليه حالياً بتجريم كل من يحرر أو يظهر الشيك المرتد وحبس المدين لحين سداد دينه. الخرطوم: صديق رمضان – الطيب محمد خير