تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    ميسي: لا أريد أن أكون عبئا على الأرجنتين.. وأشتاق للعودة إلى برشلونة    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    التحرير الشنداوي يواصل إعداده المكثف للموسم الجديد    دار العوضة والكفاح يتعادلان سلبيا في دوري الاولي بارقو    مان سيتي يجتاز ليفربول    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الشعبية .. نهاية الحكاية 1-2
نشر في النيلين يوم 15 - 03 - 2018

إعلان الرئيس ميارديت سلفاكير رئيس دولة جنوب السودان رغبته فى التنحى بعد تكاثف الضغوط المحلية والدولية عليه هل هو نهاية لحقبة سلفاكير أم هى نهاية الحكاية للحركة الشعبية ؟ تلكم التى كما يقال ملأت الساحات وشغلت الناس لعقود طويلة فى السودان ولا يزال بعض أفرادها وثلة من زعمائها يحسبون أن سيكون لها أدوار وأوزان سواء كان فى جنوب السودان أو جمهورية السودان . ولا شك أن الإنكار هو أول ما يقابل به الإنسان الأخبار السيئة قبل أن يتهيأ للتسليم بها ومن ثم التأقلم مع الوقائع الجديدة التى تنشئها.والأحداث المتتالية الجسام التى هزت جنوب السودان من بداية تشكل دولته تتبلور الآن أمام المبصر والغافل فى خاتمة وبدايات جديدة وحكايات جديدة أما حكاية الحركة الشعبية فقد إنتهت.
الحركة الشعبية …ماهى ؟
كنت كتبت بضع مقالات قبل أسابيع من إنفصال جنوب السودان بعنوان دولة جنوب السودان الأفق المعتم وسوف أعود لأستلف مقاطع كثيرة من تلكم المقالات وأجملها ههنا . ذلكم أن المجريات قد صدقت النبؤات وقع الحافر بالحافر وحذو القذة بالقذة فقد قلت يومها أن ميلاد الدولة يجئ في ظروف عسيرة بالنظر الي تدهور الاوضاع الأمنية في الجنوب وبين الجنوب وشمال السودان . وتصاعد الخلافات السياسية مع القوي الجنوبية الأخري. وعدم تهيؤ الجنوب لتحمل المسئولية الاقتصادية المترتبة علي الانفصال ، والتي تعني أول ما تعني الاستعداد لتوفير الطعام والاحتياجات الضرورية للمواطنين في الجنوب. وتوفير فرص عمل لمئات الألاف الذي نزحوا او هجُروا بواسطة الحركة الشعبية من شمال السودان دون تدبر في كيفية اكتسابهم لعيشهم في ظل انتقاء القدرة علي بناء اقتصاد كفائي او نقدي في الدولة الجديدة.أما عن الحركة الشعبية فقد قلت إنه مما يدخل في أبواب الكسل الفكري هو أخذ الأشياء علي معناها اللفظي الشكلي لا معناها الدلالي العملي.
الحركة الشعبية ماهى ؟
وقد اعتاد الناس أن يُعرفوا الحركة الشعبية لتحرير السودان بأنها حركة تمرد علي الدولة السودانية. تقاتل بدعم من قوي اقليمية ودولية لتخليق واقع مغاير بالكامل في الدولة السودانية لتصنع ما تسميه بالسودان الجديد أوهى تعمل علي اقتطاع الجزء الجنوبي منه ليكون هو ذلك السودان الجديد. بيد أن سعي جماعة مسلحة لتغيير الواقع السياسي في بلد في البلدان ليس بالشئ الجديد فهو أمر تجشمه كثيرون عبر الانشقاقات المتمردة أو الانقلابات أو حتي الغزو الأجنبي. ولكن ما يميز أية حركة تمرد او انقلاب عن الحركات الأخري هو الفكرة والقيادة. فالفكرة لابد أن تكون واضحة وملهمة . والقيادة لابد من أن تمتلك القدرة علي الاستقطاب والحشد والتوجيه. وبهذه المقاييس فان الحركة الشعبية تشكل تحدياً لمصنفها ومُعرفها. ذلك أنها حركة بلا أيدولوجية فكرية واضحة. فإن واقع الاعتراض علي سيرورة الامور بالدولة السودانية لا يحول ذلك الاعتراض الي فكرة بناءة. وقد كانت الحركة في أول شأنها يسيرة علي التصنيف. ذلك أنها وبحكم تحالفها مع نظام منقستو هيلا ماريام الماركسى قد تبنت (مانقستو) اعلاناً ايدولوجياً يصفها في مصاف الحركات اليسارية الماركسية. وبناء علي هذا الاعلان فقد وجدت تعاطفاً من دول المنظومة الاشتراكية علي الرغم من تحالف الحركة من جهة أخري مع مجموعة من الكنائس المتشددة . والتي تعتبر جنوب السودان نقطة تماس مع الزحف الاسلامي نحو افريقيا . ولأجل المانقستو الماركسى انفتحت فرص التكوين الأيدولوجي والتدريب العسكري للحركة في كوبا علي الخصوص. و التي أصبحت بمثابة المحضن الثوري الثاني للحركة بعد أثيوبيا. وهنالك تلقت كوادر عديدة من الكوادر الشابة تكوينها الفكري وتدريبها العسكري حتي قال باقان أموم في يوم من الأيام أن انتماءه لكوبا أكبر من انتمائه للسودان. لماذا لا اليس مقتضى الايدولوجية الماركسية ( أن الدجي يرضع من ضؤ النجيمات البعيدة).
بيد أن التحولات في الواقع الأقليمي والتي اضطرت الحركة الي اللجؤ الي كينيا والي التعويل علي دعم الكنائس المتشددة ومجموعات الضغط الأمريكية الأوربية ألقت بالمانفستو الماركسى الي ركن المزبلة القصى ولم يعد أحد من المتابعين أو المراقبين يسمع بذلك المانفستو وانما تحول الزعيم نفسه ليكون هو الفكرة . وأصبح كتاب (جون قرنق يتكلم) هو مصدر الأفكار للحركة . وصارت محاضرات القائد العسكري والزعيم السياسي للحركة التي صورت لتناسب التحالف الجديد هي الفكرة . وبذلك لم تعد الفكرة هي الاشتراكية العلمية الثورية وجرى استبدال التحليل الجدلي الماركس الذي يقرر أن جوهر الصراع طبقي بفكرة التهميش التي تزعم أن جوهر الصراع أثني ثقافي . ولئن كان حل الاشكالية لدي الاشتراكيين العلميين هو توحيد قوة العمل وتمكين الطبقة العاملة فان الحل فى الفكرة الجديدة هو استبدال تمكين اثنيات بزعم انها هي المسيطرة باثنيات أخري بزعم انها هي المهمشة . ثم أن الثقافة التي هي لدي ماركس تابعة للانحياز الطبقي تصبح لدي جون قرنق تابعة للتصنيف العرقى. ولذلك فان مقولة تحرير السودان لا تعني تحرير السودان من نظام حكم بعينه وانما تحرير البلاد من سيطرة مجموعة اثنية “يطلق عليها الجلابة” مجازاً ومن ثقافة متعالية بزعمهم هي الثقافة العربية الاسلامية . وهكذا تطورت الحركة من حركة بناء اشتراكي “مهما يكن اختلاف الرأي حول ذلك” الي حركة هدم ثقافي اثني.
مأزق الفكرة:
هذا التحول أدخل الحركة في مأزق ضيق والمأزق بطبعه ضيق لأنه حجر الوزق الذى هو ما نسميه الضب . وهكذا أدخلت الحركة نفسها في حجر ضب خرب. ذلك أن التجاذب الاثني العرقي هو آفة الجنوب الأولي . فاذا تحول الصراع من صراع طبقي الي صراع اثني فان أول التهاب النار سيكون في جنوب السودان بادئ ذى بدء. واما الاشارة للمسألة الثقافية المتصلة باللغة والقيم الدينية والاجتماعية فانه يبطل الزعم بأن جنوب السودان بصفته وحدة اقليمية يمكن أن ينفك من الوشائج التي تصله باللغة العربية لساناً ناظماً لكل العرقيات والقبائل بجنوب السودان (وحتي في جيش الحركة نفسها) . او تلك الأواصر التي تربطه بالقيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية في شمال السودان. لاشك ان الجنوبيين الذي عاشوا في شرق افريقيا في كينيا ويوغندا قد أدركوا انهم لا يشكلون تواصلاً للقيم الثقافية والاجتماعية السائدة في تلك البلدان بقدريمثلون امتداداً لما يُسمي بالثقافة السودانية . التي وان كانت القيم الاسلامية واللغة العربية مشربها الرئيس الا ان مواردها عديدة . ومتجذرة في الثقافات المتنوعة في ارجاء السودان المختلفة التي تعدد فيها اللهجات والعادات والمثل الاجتماعية . ومأزق الحركة الثقافي هو انها ليست داعية للتباعد من اللغة العربية والثقافة السودانية بما هي عليه لتتقارب مع لغة بديلة في جنوب السودان أو قيم ثقافية واجتماعية محلية بل انها تريد أن تكون ناسخاً للغة الانجليزية ولقيم الثقافة الغربية في محاولة عبثية لغرسها في تربة افريقية عجزت تلك اللغة وأخواتها وتلك الثقافة واضرابها ان تضرب جذورها فيها. فاللغة الانجليزية مهما ظفرت به من وضع رسمي في شرق افريقيا عجزت ان تخترق الحد الفاصل بين النخبة والشعب لتكون لغة الشعب. فالسواحلية أثبتت أن اللغة الاصلية غير قابلة للاستبدال مهما استقوت الدخيلة بالدساتير والقوانين والتعليم والاعلام الرسمي. وكذلك فان اللغة العربية والهوسا وغيرها من اللغات الأهلية في غرب افريقيا أوقفت اللغة الفرنسية قي أسوار المؤسسات الرسمية والمدراس. وظل الشعب حريصاً علي لغتة وثقافته وهويته التي هي اكبر من كل متعلق آخر من لبوس الحضارة الغربية او سمتها او قيمها المتبدلة المتحولة بتبدل احتياجات الانسان المادية او طغيان غرائزة السفلية.
مأزق فكرة الحركة الشعبية أنها ترمي الاغيار بدائها الذي هو تأسيس الهوية لا علي الفكرة والعقيدة والمثل الاجتماعية والاخلاقية بل تاسيسها علي الأصل العرقي. ولئن كانت الحركة لا تبصر ارتداد هذا المفهوم عليها فهي مثل ذلك الفرعون الذي لا يري عورة نفسه . بينما يكتم الناس من حوله صيحات الدهشة والاستغراب . فعندما كانت الحركة تفاوض الحكومة في نيفاشا كان مكتبها القيادي يضم ثلاثة عشراً فرداً من قبيلة واحدة واثنان فقط من كل قبائل الجنوب الأخري. ولم تكن الغلبة الاثنية علي قيادة الحركة في الماضي أو الحاضر بغائبه علي كل ذي بصر بينما تقول الحركة أنها حرب علي الاقصاء الاثني وعلي التهميش العرقي.
ومأزق الحركة الفكري والثقافي أنها ليست حركة لاثبات خصوصية المكون الثقافي الجنوبي واعلاء حظه في اثراء الثقافة القومية بل هي داعية تغريب alienation واستغراب westernization . وهي بذلك تقف في الموضع الموازي لكل حركات التحرير الافريقية. بدءاً بكينيا كنيتانا الي جنوب افريقيا مانديلا والتي جميعها خركات اعتزاز بالثقافة الافريقية ودعوات لاحياء تراثها وآدابها ولغاتها. وقد لايستغرب العليم ذلك الموقف فالحركة الشعبية بخلاف حركات تمرد وثورة عديدة لم تعتمد علي تعاطف المواطنين المحليين ودعمهم واسنادهم بقدر ما اعتمدت علي دعم مجموعات الضغط والمنظمات الأجنبية. حتي كادت ان تصير بل اصبحت ربيباُ و حركة متبناة للمنظمات غير الحكومية الأجنبية ومجموعات الضغط الديني الغربى . ولا تزال وهي تدنو الي نقطة التحول من وضعها الراهن الي استشراف الدولة الجديدة تضع مُعولها الأكبر لا علي شعبها بل علي تلك النجيمات البديلة في أمريكيا وأوربا.
شعب جنوب السودان.. واقع الحال:
تواجه الدولة الجديدة معضلة ليس لها سابقة في تاريخ نشأة الدول الافريقية . وهي حاجتها الي هوية مشتركة تعطي معني لعبارة (شعب جنوب السودان) . فاذا كان للدولة ان تكون (دولة جنوب السودان) فان أهم مكونات هذه الدولة هو شعبها . ولايكون الشعب شعباً Nation لتكون له دولة Nation State الا اذا كانت له هوية مشتركة . تقوم علي تاريخ من الحياة المشتركة والتراث الثقافي واللغة العابرة للاثنيات . وربما الكفاح المشترك من اجل مقاصد ينشدها الجميع. ولكن كل ذلك تكتنفه علامات الاستفهامات في حالة جنوب السودان. فعلي الرغم من الجغرافيا الواحدة فان قبائل جنوب السودان تعيش متباعدة مالم يقدها هذا التباعد الي حروبات طاحنة بسبب التنافس علي الموارد أو حتي العدوان لاستلاب الابقار وغيرها من الموارد الاخري. وعلي الرغم من التشابه في بعض المعتقدات والممارسات فان الحديث عن تراث ثقافي موحد لجنوب السودان حديث ينطوي علي تجاوز كبير. فالقبيلة ظلت دائما هي المرجعية الثقافية ممثلة في ثقافة تقديس الاسلاف . ولذلك فان انماط كسب العيش او طرائق ممارسة الحياة ظلت متأثرة بمعطيات البيئة وخبرة الاسلاف في التعاطي مع البيئة ومع الكون والحياة بصورة عامة . وكان انعدام اللغة الواصلة بين القبائل سبباً آخر لتكريس العزلة الثقافية القبلية . ثم أن اتجاه القبائل للمعيشة متباعدة في شكل عشائر بصورة لا تعين علي انشاء القري بله عن البلدات والمدن كان هو الآخر عاملاً في هشاشه النسيج الاجتماعي. فمن المعلوم أن التحضر الذي هو المعيشة في قري كبري أو بلدات أو مدن يشكل اكبر العوامل في دمج المجموعات السكانية لتشكل مجتمعات متماسكة قابلة للادماج في مجموعة اكبر يمكن ان يطلق عليه مفردة شعب. هذا الفراغ الاتصالي بسبب تباعد السكان وانعدام اللغة العابرة الا في المدن . وهي اللغة العربية البسيطة التي يطلق عليها عربي جوبا احياناً ولا يطلق عليها اي اسم في الاحيان الأخري جعل من الجنوبين حالة فريدة مقاومة للاندماج الاجتماعي. فحتى عند هجرتهم للمدن الكبري فان القبائل لا تتساكن بل تنشئ مجمعاتها الخاصة بها . ويتنتقل نظام القبيلة الي المجمع الجديد بتقاليده وأسلوب حياته وسلاطينه بل وحتي عداءاته التاريخية. لذلك فان التحدي الأعظم الذي يواجه قيادات الجنوب اليوم هو تسريع أنماط الاندماج الاجتماعي عبر وسائل متعددة أهمها انشاء البلدات الجديدة أو توسيع تلك القديمة . ونشر التعليم ومكافحة النزاعات القبلية وسد فجوات الثقة بين القبائل . ولكن كل شواهد سلوك الحركة الشعبية لا تبشر بأنها تتحرك في ذلك الاتجاه بل هي تتحرك في اتجاه الفرز القبلي . وتكريس النزاعات القبلية . بل ومحاربة اللغة العربية والتي يمكن ان يعين انشارها علي تحقيق اتصال لغوي وانساني بين قبائل الجنوب. ومحاولات استبدال اللغة العربية بالانجليزية أو السواحلية أو محاولة فرض لغة قبيلة بعينها يبدو فشلها ظاهراً للعيان لك ذي بصيرة.
الاقتصاد ركيزة الدولة.
ولئن كان لابد للدولة من شعب متجانس فلابد لهذا الشعب من اقتصاد يكفي احتياجاته المباشرة والتكميلية. وربما ألهي النظر للموارد المالية المتاحة لجنوب السودان من خلال تصدير النفط الانتباه عن التركيز عن ازمة حقيقية في الاقتصاد الكفائي . أي قدرة شعب جنوب السودان علي تحقيق انتاج يكفي غذاءه واحتياجاته الاساسية. فالتحولات الكبيرة التي تجمعت من التغيرات البيئية ومن أثار الهجرة واللجؤ علي ثقافة العمل والغذاء تجعل مشكلة الانتاج الغذائي مشكلة حقيقية يواجهها جنوب السودان. ولن يجديه أن يعتمد شماله علي واردات شمال السودان وجنوبه علي واردات شرق افريقيا. فهذه الواردات ستجعل الدولة الجديدة عالة علي الاستيراد مما يضعف قدرتها علي النمو الي مدي بعيد. ولابد من التخطيط والعمل السريع لتحويل تربية الابقار الي نمط اقتصادي قادر علي تلبية احتياجات الغذاء والمساهمة في الاقتصاد النقدي . كما يجب توسيع الرقعة الزراعية وتنويعها بحيث تستجيب لحاجات السكان الغذائية الجديدة. وكذلك تطوير مهنه الصيد للقبائل التي تعتمد علي صيد الاسماك في طعامها. وقد لاتبدو المشكلة ماثله في حجمها الطبيعي. ولكن القيادة في جنوب السودان ستتفاجأ بحاجتها للتعامل مع وضع انساني مريع حيث تنشأ معسكرات للجائعين حول المدن مما ينشئ وضعاً مشابهاُ للأوضاع التي سادت في شرق افريقيا لبعض الوقت. هذا الوضع يمكن ان يتجه لمزيد من التدهور اذا أصبحت النزاعات القبلية وتمردات قادة الجيش الشعبي عاملاً آخر لدفع موجات من النزوح وتعطيل الحياة الانتاجية الاقتصادية.
الأمن الداخلي والاقليمي:
عدم توفر الأمن الداخلي بسبب التمرد أو النزاع القبلي ومهددات الصراع الاقليمية بسبب انتهاج الحركة لسياسة بناء محور بين جنوب السودان ويوغندا موجهاً ضد شمال السودان كل ذلك سيجعل فرص انشاء دولة قابلة للبقاء والنمو فرصاً ضئيلة للغاية. وإذا كان ثلة العقلاء من العقلاء في جنوب السودان يدركون أهمية تحويل شعارات الحركة في حقوق الانسان والديمقراطية الي واقع مملوس هنالك الا ان الافعال لا تزال تناقض الاقوال. فالحركة فشلت في بناء ديمقراطية تعددية. ولا تزال تحرص علي استدامة الواقع الشمولي الذي كرسته خلال سنوات الفترة الانتقالية. كما أن اتباع سياسة الفرز القبلي توشك أن تشعل نزاعات قبلية داخل الجيش الشعبي وخارجة تمرداً علي سلطته. فشعور قبائل باكملها مثل قبيلة الشلك بأن الجيش الشعبي أصبح مهدداً لبقاء ومصالح القبيلة دلالة علي فشل قادة الحركة في ادراك ضرورة اضفاء صفة المدنية علي الدولة . اي ابعاد العسكريين عن الهيمنة علي الدولة وكذلك بناء دولة المواطنه التي يتساوي فيها جميع المواطنين باختلاف قبائلهم او أديانهم. ولكن بالنظر الي المشهد في جنوب السودان فان توقع قيام دولة مواطنة مدنية في جنوب السودان يبدو توقعاً يستند علي الآمال باكثر من استناده علي الوقائع. ولئن كانت دولة جنوب السودان قد جاءت نتاجاً لحركة تمرد فان اخطر ما يهددها الآن هو الذي أنتجها أي التمرد نفسه . والتمرد تزكيه نزاعات قبلية وصراعات شخصية واطماع في موارد مالية لايحرسها نظام فاعل من الكفاءة او الرقابة الادارية والمالية. ولذلك سيتوجب علي القيادة ان تسرع في احتواء ظواهر التمرد من خلال توافقات سياسية . ومن خلال بتاء ديمقراطية حقيقية فالفرصة لا تزال متاحه لانه وحتي هذه اللحظة فان هذه التمردات معزولة عن كل دعم اقليمي او تعاطف دولي. ولكن ذلك سرعان ما يتبدد نتاجاً لسياسات الدولة الجديدة او أطماع الدول حولها في تدوير مواردها او نتاجاً لتحركات لوبيات او أجندة دولية سرعان ما تجد من يعبر عنها وعن أجندتها في واقع الدولة الجديدة.كان ما كان أنفاً ما قالناه قبل إعلان الاستقلال وجريان لا أقول مياه كثيرة تحت الجسر بل دماء كثيرة فوق كل شىء وتحت كل شىء فماهو مسير ومصير الحركة الشعبية بعد كل ما جرى يا ترى ؟
نواصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.