*فلما احتجت إليها اليوم فوجئت باختفائها في ظروف غامضة.. *أو ربما في ظروف مملة… إذ آثرت التلاشي مللاً.. *وفيلسوف كتب مرةً خاطرة عن الملل… قال فيها إنه يشعر بروحه تتلاشى.. *وأنيس منصور وصفه بنمل يدب على الجسد… فيشله.. *والأصح إنه يدب على المخ – وفيه – أولاً فيشله… فيؤدي ذلك إلى شلل الجسد.. *وهو شلل يعني هنا انعدام إحساس المرء بأعضائه… فالحياة.. *أو شعوره بظلمات فراغ… بعضها فوق بعض… لو أخرج يد (أملٍ) لم يكد يراها.. *والملل قد يكون جماعياً أحياناً… لا فردياً فقط.. *وذلك حين يسرى شعور الملل الحاد بين أفراد شعب بحاله… جراء أوضاعٍ ما.. *وعندها قد تنفجر الأوضاع هذه… كسراً للملل.. *فتنكسر دول وحكومات وحضارات… ولا أدري لم أغفل ابن خلدون هذا العامل.. *فهو أيضاً يؤدي إلى انهيار دول… وإن بدت قوية ظاهرياً.. *فالملل الجمعي مؤشر إلى وجود علة سياسية لا ينتبه لها الحاكمون… وبطائنهم.. *ويمكن تشبيهه – سياسياً – بدائرة (فراغ) شعبي كبيرة.. *دائرة مفرغة من كل شيء ؛ الأمل… الطموح… السعادة… الأطايب… والرضا.. *وتقابلها دائرة (امتلاء) رسمي صغيرة ؛ بالقيادات…والطيبات.. *وعندما تبلغ الدائرة الأولى ذروتها قد تنفجر في وجه الثانية… ونكتفي بمثالين: *الثورة الفرنسية… والثورة البلشفية في روسيا.. *ففي هاتين الدولتين ضاقت الدائرة الثانية على فئة بعينها… واُتخمت بها امتلاءً.. *واتسعت الأولى على الشعب… واُفرغت منهم مللاً.. *فما عاد أفراد الشعب يحسون بالحياة…ولا بالأمل…ولا بأنفسهم…ولا بعقولهم.. *وتحت تأثير عدم الإحساس بالعقول هذا حدث ال(لا منطق).. *فتم إزهاق أرواح حتى أطفال الذين كانوا يملؤون الدائرة الرسمية… وتمتلئ بهم.. *تمتلئ شهوات بطونهم… وفروجهم… وسلطاتهم ؛ ولا تشبع.. *وعلى الصعيد الفردي قد تتجاوز دائرة الملل حدود الشلل فتنفجر في وجه صاحبها.. *فينفجر في أقرب وجوه تحيط به… كيفما اتفق.. *وأذكر أن أستاذنا لعلم النفس كان قد لاحظ في زميل لنا ما رصده بحكم تخصصه.. *فناداه في مكتبه وسأله : هل تشعر بالملل يا ابني؟.. *فأجاب الزميل فوراً : نعم… ثم شرح له أسباب ملله هذا بالتفصيل (الممل).. *وتتلخص في التضييق الشديد الذي تمارسه عليه الأسرة.. *لا تلعب مع هذا… لا تتحدث مع هذه… لا تجئ إلى هنا… لا تذهب إلى هناك.. *كورة لا… سينما لا… روايات لا… رحلات لا ؛ كله لا في لا.. *فبدأ يشعر بالملل من وجوه بعينها تحيط به في جميع الأوقات… عدا أوقات الدراسة.. *فطلب منه الأستاذ إحضار ولي أمره… وانكسرت دائرة الملل.. *فالتضييق… مع القهر… مع تكرار الوجوه… من مسببات الشعور بالملل.. *وكذلك الكتابة عن الملل من أول وجديد !!!. صلاح الدين عووضة صحيفة الصيحة