فكرة إعادة ترشيحه رئيساً للجمهورية في انتخابات 2020م ، كانت تمثل بداية النهاية للنظام الحاكم ، وللرئيس السابق "عمر البشير" داخل حزب المؤتمر الوطني، وخارجه على مستوى الرأي العام . فإذا كانت انتخابات مجلس شورى الحزب الحاكم (السرية) في أكتوبر من العام 2014م ، لاختيار رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الجمهورية في انتخابات 2015م، قد كشفت عن تراجع كبير في شعبية "البشير" داخل حزبه وحاضنته السياسية، وأظهرت النتائج التي حجبتها لجنة الانتخابات خوفاً من تصدع الحزب وانهيار الدولة، أظهرت فوز الدكتور "نافع علي نافع" على خصمه رئيس الحزب والجمهورية المشير "البشير"، فكيف يصر رجال حول الرئيس على إعادة ترشيحه في العام 2020؟! لو أن "البشير" سمع للعقلاء والحكماء وتقاعد في العام 2015م ، لكانت دورة "نافع" في رئاسة الجمهورية قد انتهت في عامنا هذا (2020م)، ولربما تغير الحال السياسي وتبدل الواقع الاقتصادي، وتجددت دماء الحزب التي تكلست بانسداد شرايينه التاجية، وضمور عضلات قلبه ، فصار غالب نشاطه خاملاً .. شكلياً واستعراضياً ، يدور حول أرقام فلكية ، وتقارير مطبوخة، وقواعد ضعيفة الولاء ، وحشود تنفض بانتهاء البرنامج ، ورغم ذلك يظل قطاع التنظيم بالحزب يفاخر في أجهزة الإعلام بعقد الآلاف من مؤتمرات الأساس والمناطق والمحليات والولايات بمشاركة ملايين الأعضاء ، حتى إذا ما اندلعت مظاهرات احتجاجية لشهور بسبب أزمات اقتصادية، تبخرت مؤتمرات الأساس واختفت ملايين العضوية!! في "إيران" .. طال عمر دولة (الملالي) لأكثر من (40) عاماً، ابتداءً من العام 1979م بقيادة "الخميني" ، لسبب واحد، هو قدرتهم على تداول السلطة سلمياً في ما بينهم، وليس بسبب القهر والبطش واستخدام آلة العنف، فجميع الأنظمة التي استخدمت أجهزة الأمن وقوات الشرطة لقمع الثورات الشعبية بمنطقة الشرق الأوسط .. سقطت ، أو انهارت الدولة وتفككت ، كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن . كان متاحاً للإسلاميين في السودان أن يمارسوا تداول السلطة في ما بينهم كمرحلة أولى ، قبل أن يقتنعوا بممارستها مع القوى السياسية الأخرى في السودان ، فينزل الشيخ "الترابي" في انتخابات الرئاسة في مواجهة المشير "البشير" ، ويسمحوا بمنازلة دكتور "نافع" للرئيس تحت الأضواء الكاشفة ، كما فعل رئيس بلدية "طهران" الشاب "محمود أحمدي نجاد" عام 2005م منافساً لرئيس الجمهورية الأسبق آية الله "هاشمي رفسنجاني" ، فهزمه شر هزيمة ، وكان "نجاد" يمثل التيار المحافظ في الدولة، بينما يقود "رفسنجاني" جناح الإصلاحيين ، وكلاهما مرجعهما واحد .. وهو مرشد الجمهورية الإسلامية !! تنازع "البشير" و"الترابي" فانشق الحزب والحركة الإسلامية ، إلى حزبين وحركتين بنهاية العام 1999م . وأصر "البشير" بتشجيع من مديري مكتبه الأسبق الفريق "طه عثمان" والسابق الأستاذ"حاتم حسن بخيت" ، بدعم عدد من قادة الحزب والدولة وولاة الولاة الحريصين على مناصبهم، أصروا على ترشيحه مجدداً رئيساً لانتخابات 2020 ، متخطياً عامه (الثلاثين) في القصر الجمهوري ، فكان لابد من ثورة تبدأ من الحزب الحاكم نفسه .. إلى جهاز الأمن .. إلى الجيش .. وتنتهي في الشارع. افتتح والي جنوب دارفور المهندس "آدم الفكي" مزاد (2020) في زيارة الرئيس السابق لنيالا في العام 2017م ، فخطب الرئيس في الجمع الغفير وقال ? آدم الفكي قاعد في الولاية لحدي2020)!! أصبحت الشفرة المفهومة عند ولاة الولايات أن من يريد البقاء في منصبه ومرافقة "البشير" إلى نهاية الشوط ، فعليه إعلان دعم جماهير الولاية عبر وثيقة (عهد وميثاق) يحملها رموز الولاية ، لإعادة ترشيح الرئيس في 2020 . كنا نرافق الرئيس في تلك الجولات الولائية في العام 2017 ، وكان مهندس تلك الحملات رئيس قطاع التنظيم وزير ديوان الحكم الاتحادي دكتور "فيصل حسن إبراهيم" بالتعاون مع ساعده الأيمن "حامد ممتاز" ومدير مكتب الرئيس "حاتم حسن بخيت" آخر سنوات "البشير" (21) لم يُحسِن التيار الكبير الرافض لترشيح "البشير" رئيساً للحزب ومرشحاً عنه لرئاسة الجمهورية في انتخابات 2020م ، اختيار الوقت والأدوات المناسبة لمواجهة حملة التجديد للرئيس ومحاصرتها، دون استفزاز الرجل المعروف عند قيادات الحزب بالعناد و(ركوب الرأس) . وبدلاً من إدارة حوار داخلي والتواصل مع المجموعة المؤيدة لإعادة الترشيح ، بقيادة النائب الأول الأسبق الأستاذ "علي عثمان محمد طه" ورئيس البرلمان البروفيسور "إبراهيم أحمد عمر" ، إضافة إلى المجموعة الصغيرة المحيطة بالرئيس التي تضم باستمرار الفريق أول "عبدالرحيم محمد حسين"، فإن نائب رئيس الحزب المهندس"إبراهيم محمود حامد" قد اختار الخروج إلى الإعلام لمحاصرة الرئيس والتأكيد مراراً وتكراراً أن الحزب لم يحسم أمر التجديد للرئيس ، ثم تبعه الدكتور "أمين حسن عمر"برفض فكرة إعادة ترشيح الرئيس، إلى أن جاء وزير الدولة بمجلس الوزراء القريب من الفريق "بكري حسن صالح" ليعلن لصحيفة (الأخبار) أن الحزب لديه خيارات عديدة لخلافة "البشير"!! كل هذه التصريحات أغضبت "البشير" وجعلته في حالة استفزاز وإحساس بمؤامرة. فتصاعد التوتر داخل المؤتمر الوطني ، خاصة عندما نما إلى علم الرئيس أن الدكتور"نافع علي نافع" هو من يقود التيار الرافض للتجديد، مؤازراً في الخفاء تقديم "بكري حسن صالح" مرشحاً لرئاسة الجمهورية . تحفزت مجموعة رجال حول الرئيس للمواجهة، وظل الفريق "عبدالرحيم" قريباً إلى قلب "البشير"وضيفاً مسائياً يومياً في بيت الضيافة الرئاسي، غض النظر عن موقعه في الدولة ، سواء كان وزيراً للدفاع أو وزيراً لرئاسة الجمهورية أو وزيراً للداخلية ،أو والياً للخرطوم، أو رئيساً للمجلس الأعلى للاستثمار، وهي آخر وظيفة تقلدها في النظام السابق . كما ضمت المجموعة لاعباً جديداً حل على القصر منقولاً من مجلس الوزراء في يونيو 2017م، وهو ابن خال الرئيس .. الأستاذ "حاتم حسن بخيت" الذي أصبح مديراً لمكاتب الرئيس، بعد إقالة الفريق "طه عثمان أحمد الحسين" في أحداث درامية مثيرة . كان الفريق أول "بكري حسن صالح" أهم رجال هذه المجموعة إلى أن غادرها في العام 2018م إثر تعثر حكومته في مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة ، فضلاً عن تنامي شكوك الرئيس حول مجموعة "نافع" وتحالفها مع "بكري" . ويُعد الفريق "بكري" العضو الوحيد الذي تبقى إلى جوار "البشير" من أعضاء مجلس قيادة إنقلاب 30 يونيو 1989م ، وقد عمل الرجل لسنوات إلى جوار قائده "البشير" في سلاح المظلات، قبل استلام السلطة ودخولهما القصر الجمهوري مترافقين لثلاثين عاماً طويلة . لكن الجنرال (النوبي) الفارع لم يوفق في مهمة رئيس الوزراء، المنصب المُستحدث في العام 2017م ،تنفيذاً لتوصيات الحوار الوطني ، فقرر الرئيس في سبتمبر 2018م حل حكومته بعد عمر لم يتجاوز عاماً ونصف العام ، ليأتي محله الدبلوماسي الشاب وزير الكهرباء والموارد المائية "معتز موسى"، وهو أيضاً من أسرة الرئيس . ظلت ثقة "البشير" في "بكري" لا تحدها ولا تشوبها شائبة، لسنوات طويلة، فهو رجل مطيع وضابط منضبط، ولا يتدخل في ما لا يعنيه. وأذكر أن سكرتيره الخاص "أبوالقاسم" وهو ضابط برتبة (نقيب) بالقوات المسلحة، قد طرح عليَّ مشكلة تتعلق بمنطقته في ولاية النيل الأزرق ، وكان ذلك في العام 2010م ، وكان الجنرال يشغل وقتها منصب وزير رئاسة الجمهورية ، فكتبتُ عن القضية وكانت سياسية طرفها والي الولاية، وتم حل المشكلة لاحقاً ، وقابلتُ بعدها "أبوالقاسم" في إحدى الرحلات الخارجية ، فقال لي :(المشكلة الحمد لله اتحلت .. و الله سيادتو بكري دا قدر ما قلنا ليهو تدخل ، قال هو ما بتدخل في شغل المؤتمر الوطني) !! غير أن توتر العلاقة بين النائب الأول للرئيس الفريق أول"بكري" ومدير مكتب الرئيس الفريق أمن "طه عثمان"، كانت لها تأثيراتها على درجة حرارة الرئيس وتقلب الطقس في القصر الرئاسي . ملف العلاقة مع السعودية والإمارات وتضخم شخصية "طه عثمان" مقابل تراجع دور قيادات الدولة والحزب ومدير جهاز الأمن والمخابرات ، أدى إلى تعجيل المواجهة بين الفريقين ، وكان الجميع يتكتل ضد "طه" الذي انفرد بالرئيس وحجبه عن الجميع، فلم يعد يرى سوى ما يرى الساحر "طه عثمان"!! سألني أحد المقربين من "طه" في تلك الأيام الملبدة بالغيوم : (ما رأيك في هذا الصراع المكتوم؟) . قلت له : ("طه" نجح في إقصاء الفريق "قوش" من المشهد، ثم أبعد صديقه "محمد حاتم" من القصر إلى الحزب ، وقبله أبعد "محجوب فضل بدري" من وظيفة السكرتير الصحفي للرئيس، لكن النهائي في هذا الدوري ستكون مباراة "طه" ضد "بكري" ، وسيكسبها "بكري" لأهمية وجوده في القوات المسلحة التي يحسب لها الرئيس ألف حساب) . وبالفعل .. خرج "طه" من الملعب تحت ضغط "بكري" ومدير المخابرات "محمد عطا" ، مستغلين معركة السعودية والإمارات ضد قطر ، وانحياز "طه" الواضح مع التحالف والتزامه للسعوديين بمقاطعة "الدوحة" وهو ما لم يحدث. كان "طه" أول ضحايا حصار قطر !! بعد عام .. تلقى "بكري" – نفسه – ضربةً موجعة بإقالته من منصب رئيس الوزراء ، ثم تلقى القاضية في نهاية فبراير 2019م، بإعفائه من منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية الذي ظل يحتفظ به منذ العام 2013م . آخر سنوات "البشير" (22) تصاعد تيار التحفظ على إعادة ترشيح الرئيس السابق "عمر البشير" لدورة جديدة في انتخابات 2020، داخل المكتب القيادي ومجلس شورى المؤتمر الوطني خلال فترة المهندس "إبراهيم محمود" الذي لم يتحمس لطرح القضية داخل الحزب. ويرى هذا التيار الذي يقف خلفه الدكتور "نافع علي نافع" أن الوقت لم يكن مناسباً في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتبرم الشعب من الضائقة المعيشية، وتطاول سنوات حكم "البشير" ، أن يتبنى الحزب إعادة ترشيحه . ولأن دستور البلاد وكذا النظام الأساسي للحزب لا يسمحان بدورة إضافية للرئيس، كان لابد من تعديل الدستور والنظام الأساسي للحزب ، وهي معركة طويلة استمرت إلى ما بعد إقالة "إبراهيم محمود" من منصب نائب رئيس الحزب ، وتصعيد رئيس قطاع التنظيم الدكتور "فيصل حسن إبراهيم" ليصبح نائباً ل"البشير" في الحزب في فبراير 2018م . وتهمس لي بعض المصادر أن "فيصل" اقترب من الرئيس في أواخر عام 2017م بعد تعيين "حاتم حسن بخيت" مديراً لمكتب الرئيس، مفارقاً تيار الدكتور "نافع" و"إبراهيم محمود" الذي يضم أكثر من نصف أعضاء المكتب القيادي . التقى "فيصل" بالرئيس عدة مرات ، وأصبح رجله في الحزب، وظل عضواً أساسياً في كل رحلات الرئيس في الولايات باعتباره وزير ديوان الحكم الاتحادي، بينما كان الهدف الأساسي من وراء تلك الرحلات استنفار هياكل الحزب في الولايات لدعم ترشيح "البشير" في العام 2020م ، وتزعم عدد من الولاة الحملات باعتبارهم رؤساء الحزب في الولايات . رافقتُ الرئيس السابق في العام 2017 م في عدد من الزيارات الولائية ، منها زيارته إلى "كسلا" ، "بورتسودان" و"مدني" ومحليات ولاية الجزيرة . كانت الفقرة الأساسية في اللقاء الجماهيري الحاشد في كل زيارة هي تقديم رموز الولاية ونظار القبائل وثيقة عهد وميثاق لإعادة ترشيح الرئيس لدورة جديدة في الانتخابات المقبلة . لم يكن نائب رئيس الحزب في المركز "إبراهيم محمود" سعيداً بتلك الحملات الاستباقية التي تسعى لفرض خيار وحيد على أجهزة الحزب ، قبل أن يحين أوان الترشيح ، في آخر مؤتمر شورى قبل انعقاد المؤتمر العام في العام 2019م . خرج "إبراهيم محمود" متحدثاً في الصحف مجدداً تأكيداته بأن حزب المؤتمر الوطني لم يحسم بعد قرار إعادة ترشيح الرئيس لدورة إضافية ، فزادت المسافة النفسية بينه و"البشير" . إذن .. يواجه الرئيس مأزقاً في الحزب ، فكيف يمكن تخطيه ، وعدد الرافضين والمتحفظين على تجديد رئاسته ، داخل المكتب القيادي أكبر من المؤيدين؟! وخارج الحزب تشكلت مجموعة أخرى في الجهاز التنفيذي تضم النائب الأول للرئيس الفريق أول "بكري حسن صالح" ومدير جهاز الأمن والمخابرات الفريق أول "محمد عطا المولى عباس" وعدد من الوزراء والتنفيذيين على مستوى أدنى، مثل وزير الدولة بمجلس الوزراء" جمال محمود" الذي شغل من قبل وظيفة أمين قطاع الطلاب بالمؤتمر الوطني . هذه المجموعة أيضاً أقرب إلى الدكتور "نافع" ، وترى في "بكري" الخليفة الأنسب ل"البشير" . في ظل هذا المشهد المضطرب ، بدأ مدير جهاز الأمن السابق الفريق أول "صلاح قوش" الاقتراب من المسرح، انتظاراً للحظة المناسبة للوثوب على خشبته، وتمثيل دور (البطل المُخلِّص) ! اقترب "قوش" أكثر ، ودخل لعبة (2020)، وتحيّن فرصة زيارة "البشير" للولاية الشمالية لافتتاح مهرجان "البركل"، في منتصف ديسمبر 2017م ، وقدم مع أهله من أعيان الولاية، وثيقة عهد والتزام بإعادة ترشيح الرئيس لدورة جديدة ، بينما لم يكن والي الولاية المهندس "علي العوض" متحمساً لتقديم الوثيقة !! لم يعمِّر "العوض" في المنصب كثيراً ، فغادره في أول تعديلات على مواقع الولاة . بعد أقل من شهرين ، في فبراير 2018م عاد الفريق "قوش" الذي كان متهماً بتدبير محاولة انقلابية في العام 2011م ، عاد إلى مكتبه الذي غادره في العام 2009م .. مديراً لجهاز الأمن والمخابرات الوطني ! نواصل غداً . الهندي عزالدين المجهر