لا ادعي زمالة معه إذ لم يحدث ان تزاملنا في مؤسسة تعليمية أو مهنية…. لا أقول ان لي صداقة معه.. إذ ليس بيننا تواصل راتب…ولم نتبادل أرقام التلفونات في يوم… ولكنني أجزم بأن هناك محبة قوية بيننا.. كنت اقرا كل ما يصدر عنه من كتابات بنهم شديد… وهو الاخر كان يقرأ لي… لقاءتنا كانت متباعدة وكلها في مناسبات ثقافية واكاديمية واجتماعية…. ففي هذة المرات التي نلتقي تظهر تلك المحبة في أبهى حللها … كنت استجوبه في بعض ما صدر عنه من أفكار وأراء ومواقف… كنا نضحك كثيرا فأنت في حضرته لا تفرق بين الجد والهزل… فالبسمة لاتفارق شفتيه وهو ينطق باقسى الكلمات.. قلت له ياقور (هناك اتفاق بيننا بابعاد الالقاب العلمية عندما نتلاقى وكان ذلك بمبادرة منه ) انت مصاب بما يسمى تشوهات مهنة( Job Distortion) فأصبحت حياتك كلها عبارة عن مسرحية… وصفني في أكثر مقال بصفة المفكر السوداني فقلت له دي واسعة شديد يا قور ولا انا حا اضطر اصفك بالفيلسوف السوداني قور ونقعد نوزع في الالقاب المجانية على بعض.. ياخي انت قلت ما عاوز حتى الالقاب العلمية…. فقال الم تسمع بنظرية موت المؤلف؟ فأنا عندما اقرا اي نص لا اتذكر كاتبه واحكم على النص من خلال محتوياته… واصنف كاتبه من خلال كلمات النص فقط… لذلك لا يحق لك ولا لغيرك ان يجادلني فيما يصدر عني بناء على فهمي للنص… قابلني ذات مرة فكان كمن يبحث عني فقلت له خير ياقور عاوز تقول شنو؟ قال لي شايفك بديت تظهر في التلفزيون كمقدم برنامج… فمن فضلك ابعد من التلفزيون دا.. فقلت لماذا؟ ماهو عمل صحفي هو الاخر.. فرد ابدا انت اشتهرت ككاتب صفحي… واصبحت واسع الانتشار (يومها كان عمود حاطب ليل له مقرؤية عالية كما أوضحت الانترنت ) فالظهور في الشاشة يزيل عنك الغموض الذي أضفى سحرا على كتاباتك… يعني بصريح العبارة بفضحك.. فالكتابة ستر والتلفاز كاشف… فقلت له كلامك مدهش ولكن لن افكر في مدى صدقيته… لأنني عزمت على خوض التجربة… فضحك وقال على كيفك المكتولة ما بتسمع الصايحة.. ابوالقاسم قور من طراز المثقفين الموسوعيين فهو واسع الاطلاع (سوسة كتب) متنوع المعارف… حتى كسبه الأكاديمي كان متنوعا فجمع بين المسرح والنقد الدرامي.. والقانون والفلسفة… بالإضافة للموسوعية كان مثقفا عضويا… إذ تجده يعافر بعلمه الغزير على كافة المستويات المحلية والمناطقية والقومية.. كان له اهتمام خاصة بالثقافة الأفريقية وموقع السودان منها.. كان منتميا لجماعة الرابطة الأفريقية( Pan Africanism) …كان كثير الأسفار لحضور المنتديات العالمية ومن كل سفرية كان يخرج بصديق من العيار الثقيل… ويعود متابطا اخر الإصدارات العالمية… قلت له مداعبا ياقور ياخي انتي بتجيب قروش السفر دي من وين؟ فقال لي انها الاحترافية التي تمكن من معرفة المؤسسات الدولية وكيفية التواصل معها… فأنا ذي ما انت عارف ما قاعد اطلع بقروش من الأسفار دي عشان كده ما ببذل فيها قروش.. قلت له السفر خلاك مثقف عالمي.. فقال لي ماهو انت من المحلية بتاعتك بتناقش في نهاية التاريخ وفوكويوما… وصراع الحضارات وهتنغوتن. الحكاية ليست في الأسفار ولا في القعود بل هي الاحترافية والتجويد… واستند على مثل بقاري نسيته الان… كان احب الالقاب الي نفسه البقاري الانيق فقور لا يظهر الا في كامل زيه الافرنجي أو القومي.. في زيه الافرنجي كان لا يلبس (الفل سوت) فالبنطلون لازم يكون مختلف عن لون البدلة وكذا الكرفتة… كان كثير الكتابة عن المسرح العالمي… وكان يستعرض اخر النظريات النقدية بطريقة سلسلة وميسرة كان لا يتقعر في الكتابة… أعلن عن توقفه عن ذلك الضرب من الكتابة بمقال شهير… اسماه نهاية المسرح… قال فيه ان الواقع أصبح يتفوق على اي خيال.. وبعده اتجه لثقافة السلام واخلص لها… اطلاعا وكتابة وعملا تنفيذيا لدرجة انه أنشأ معهدا خاصا به لدراسات السلام في سابقة تعتبر الأولى من نوعها… ومن خلال معهده هذا قام بالكثير من المصالحات المجتمعية….. عندما علمت انه موجود في القاهرة قررت الاتصال به فاتصلت بصديقنا وزميله استاذنا البروفسور سعد يوسف… فاعطاني رقمه في الواتساب… فاتصلت به وطلبت منه موقع مركزه لزيارته… كانت سعادته بالاتصال لا توصف… قال انه طريح الفراش (عشان كده تحول مبادرتك الي زيارة مريض عشان ينيبك فيها ثواب ) وبالفعل زرته في اليوم التالي لتلك المحادثة في الدقي… دخلت عليه بعد صلاة العصر وصليت معه المغرب الذي صلاه جالسا على الكرسي… وعند أذان العشاء وانا اهم بالخروج قال لي ياخي ما تصلي بي العشاء برضو وعشان يمكن أن يكون العشا الاخير… فقلت له ياخي انا مفكر اعيد صلاة المغرب الكانت معاك تقول صلاة العشا كمان وانفجرنا ضاحكين… اللحظات التي امضيتها معه مرت سراعا وطوفنا فيها على عدة مواضيع.. وكان سعيدا بوصول نسخة من كتابه الاخير (ثقافة السلام والمسرح التنموي) وكشف لي عن المشاريع التي تتعلق بالسلام والتي يود القيام في سودان ما بعد الحرب… تحدثنا كثير في حالة البلد الدامعة .. قلت له بختك يا قور اهلك الدعامة عدمونا الحبة وانت لا عندك عربية عشان يشيلوها ولا بيت عشان يخربوه… فرد لكنهم ضروني في اعز ما املك فإن قلبي يتمزق الان حسرة على الدار الاصبحت خلا ان كل رجال المسيرية قد ماتوا فمن أسرة قور رحل عدد لايحصى من الشباب.. وقال لي أن زوجته فقدت أربعة من اشقائها… عن مرضه قال انه يتردد على مركز للقلب وكان موعودا في اليوم التالي باشعة مقطعية.. عند الخروج أصر على أن يوصلني السلم… ودعته على أمل اللقاء قريبا فما كنت ادري ان هذة اول واخر جلسة خاصة لي معه فكل لقاءتنا السابقة كان في مناسبات .. …. بعد يومين من تلك الزيارة اتصلت به لكي اساله عن نتيجة المقابلة… فقال لي أن الصورة كشفت ان هناك خللا في الصمام… فسالته عن الخطوة التالية….قال ان هناك جلسة استشارية لكي يصدر القرار الطبي منها.. ياخي الناس بيتعاملوا مع الإنسان تعامل الي يحضر اخصائي الأوردة.. واخصائي الشرايين… واخصائي الأشعة… واخصائي الشنو والشنو ويضعوا الفحوصات أمامهم ثم يصدروا قرارهم …وما يفضل ليهم الا يصوتوا.. فقلت طيب ما كويس انت دايرهم يعملوا شنو ياقور ؟ فقال لي مفروض المريض يكون موجود معهم.. لكن معقولة يا قور؟ ليه ما معقولة طالما ان القرار في النهاية خاضع للأخذ والرد البشري.. فقلت له مدد مدد يا شيخ قور.. وضحكنا وختم المحادثة بالقول لازم نتلاقى قبال الشغلانة ما تستوي… في اليوم التالي لتلك المحادثة صعقني خبر رحيله… لكنه قور الذي كان سهلا في كل حياته وسهلا حتى في مماته.. وهكذا ترحل النوارس من بلادنا خلسة… ترحل ومعها العلم والثقافة والأدب والبسمة الدائمة…. ترحل بعد أن هد قلبها الكبير الأسى والحزن لحالة البلاد والعباد…. ترحل في تلافيف دماغها الكثير من المشاريع العلمية والثقافية.. رحمك الله يا بروفسور ابو القاسم قور واسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وجعل البركة في ذريتك.. فقد كنت نسمة وبسمة وفكرة في حياتنا… ولمثلك يكون الدمع هطال… عبد اللطيف البوني /حاطب ليل /23 أغطس2025 إنضم لقناة النيلين على واتساب مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة