عندما طلب منّي الأبن عمر يوسف نقور جوك ان أكتب تقديماً لأخي السلطان يوسف نقور جوك , ترددت كثيراً . السبب الأول هو أنني قد رفضت ان اكتب تقديماً لكتب من قبل . هنالك من هو أجدر منّي و أكثر معرفةً . و الكتابة عن الأهل , قد تجعل الانسان بعيداً عن الموضوعية . و لهذا تأخر هذا التقديم . و السلطان رجل عظيم تتضائل امامه كل الكلمات . في أبريل 2011 ذهبت الى برلين , و السبب عملية زراعة نخاع لأختي ميسون رحمة الله عليها . و لأن ميسون هي زوجة الدكتور الصحفي كمال حنفي , فلقد كانت تسكن عند شقيق زوجها السفير بهاء الدين حنفي . في بداية هذا العام انتقل السفير حسن يوسف نقور من برلين الى جنوب السودان . و هذا بعد الاستفتاء الذي قرر انفصال جنوب السودان . و لفترة طويلة ردد السفير بهاء الدين حنفي اعجابه بالأبن حسن نقور أو (فقوق يوسف نقور ). و كان السفير بهاء الدين يتحدث عن حسن نقور و كأنه لا يصدق أن هنالك بشر في روعة و أدب و تديّن الابن حسن نقور . و لو كان السفير بهاء الدين حنفي شاعراً , لأشعر و نظم القصيد في انطباعه عن حسن نقور الذي عمل معه . قبل رحيل الأبن حسن يوسف نقور , ذهبت لوداعه في برلين . و كان انفصال جنوب السودان قد تقرر . و رافقني الأخ جعفر قسم الله . و هو من قدامى سكان برلين . و لم اتمالك نفسي فكنت انتحب كالطفل . و كان ابني حسن ينتحب كذلك , لدرجة أن ابنه محمد كان يسأله ( في شنو يا ابوي .. في شنو يا ابوي .. ليه بتبكوا ؟ ) . لقد صعب على ان اصدق ان السلطان يوسف نقور لن يكون جزءاً من السودان . و كنت ابكي على انفصال السلطان الذي هو مثال للحب و الإخاء و وحدة السودان . و كنت ابكي على طفولتي و أرتباطي بأعالي النيل . حكى لي السفير بهاء الدين عن تواضع حسن و خجله , و تأثره عندما كان السفير و البعض يشيدون بأخلاقه و ادبه و تفانيه في العمل . و كنت أقول للسيد السفير ان اغلبية اسرة نقور جوك على هذا القدر من الادب و الخلق و التدين و التواضع و البعد عن التغطرس . و أنهم خلقوا لكي يمارسوا العدل و احترام الآخرين و يتقبلون الجميع بأريحية و كرم . و ان الأبن حسن ( فقوق نقور ) لا يمثل إلّا جزءاً من خلق و عظمة والده الأخ السطان يوسف نقور جوك . كنت اقول كذلك, كما كتبت كثيراً , اذا كان هنالك من رجال الادارة الاهلية من يستحق الاحترام و الاشادة , فأن على رأس هؤلاء سيكون السطان يوسف نقور , و انني عشت سنين الدراسة الأولى في داخلية ملكال في مدرسة ملكال . و سنين الدراسة الثانوية في مدرسة الاحفاد . وسكنت في حيّ العباسية جاراً لشقيقي رحمة الله عليه فقوق نقور جوك . و كنت اقضي بعض ايام الاجازة معه في جلهاك . و اذا كان هنالك بشر اقرب الى الكمال خلقاً و ادباً و ديناً , فهو شقيقي فقوق نقور جوك . و إذا كان هنالك بشر يمكن ان يقارن به حسب معرفتي فهو شقيقه السلطان يوسف نقور جوك . عندما كنت في برلين , كان برفقتي ابني فقوق نقور جوك الذي سميته تيمناً بشقيقي فقوق نقور رحمة الله عليه . و كنت اقول للسفير بهاء الدين , ان كل أملي هو ان يحظى ابني بقليل من أخلاق شقيقي فقوق نقور رحمة الله عليه . السطان يوسف نقور جوك هو سلطان عموم قبائل شمال أعالي النيل , و هذه المنطقة صارت برزخاً , و منطقة عبور . و أمتلأت بالنازحين من النيل الأزرق و النيل الأبيض و كردفان و الأستوائية و بحر الغزال و حتى من دارفور . و بسبب تسامح و سعة صدر السطان يوسف نقور كان من الممكن لكل هذه القبائل ان تعيش بسلام . فلا تنقصه الكياسة فهو رجل محب للعدل و ينصف الجميع . كما اشتهر السلطان منذ شبابه بالشجاعة , و أذكر ان البعض كانوا يقولون ان السطان قلبه حجر . أو قلبه اعمى , ما بعرف الخوف . و هذا ليس بغريب , فهو حفيد المحارب الذي سارت بذكره الركبان . و هو السلطان جوك . و والده العمدة نقور جوك الذي كان رجل دولة بحق و حقيقة , و اشتهر بالمعقولية و التسامح و كان سياسياً محنّكاً . و خير دليل على حنكة الوالد نقور جوك هو محنة مرض الكوليرا الذي حلّ بتلك المنطقة . و لم يكن هنالك أي طريقة لأستئصال المرض الّا بترك المنطقة . و قديماً في السودان كان يصعب نقل البشر من مناطق سكنهم , و يرفضون الرحيل , و لا يفهمون لماذا . و لكن سياسة نقور جوك و صديقه الاداري ابراهيم بدري اقنعت الجميع بترك بلدة جلهاك . التي كانت مليئة بالدينكا ابيليانق و الفلاته ام بررو و التجار و الحرفين من حدادين و خياطين و بعض قبائل الشمال من سليم و صبح و نزّي . و لولا تلك السياسية لأنتهت بلدة جلهاك , و لما ذكرها الشاعر ود الرضي في اغنية الحقيبة ( في الاسكلة و حلّا ) و يقول فيها ( يا جلهاك حليل نزلاك ) . كان العمدة نقور جوك و صديقه الاداري ابراهيم بدري يحملون على اكتافهم و يبنون المساكن . و ينقلون الاثاث . و يحملون المرضى . و فرضوا فترة كرنتينا . و نجت المنطقة من داء الكوليرا . و قضى المرض على سكان مناطق كاملة في شمال السودان و شمال اعالي النيل . عظمة السلطان يوسف نقور و والده العم نقور جوك و تلك الأسرة العظيمة جعلت ابراهيم بدري الأداري يصير احد الدينكا بالانتساب . و تعلم لغة الدينكا و اجادها و وضع لها القواعد , و الحروف اللاتينيه . و صار يدرسها للأداريين الانجليز و السودانيين و يمتحنهم في كلية غردون . و صار ابراهيم بدري بمثابة الشقيق للعم نقور جوك و صار اسمه ماريل . و تعني الثور الكبير الأبيض . و تزوج أحدى فتيات الدينكا و هي منقلة والدة عمر ابراهيم بدري . كتب ابراهيم بدري تاريخ المنطقة و تطرق لتاريخ القبيلة بتفاصيل . و تحدث عن رحلات الهجرة و التاريخ الشعبي و التاريخ الديني و التركيبة الاجتماعية لقبائل البادانق . و هذه الكتابات موجودة في المذكرات السودانية في دار الوثائق , و هي بتاريخ 1932 , و هي باللغة الانجليزية . ان ما دفع ابراهيم بدري لأن يتنسب الى الدينكا هو روعة و إتزان و اخلاق الدينكا التي تجبر الانسان على ان يحترمهم . و خير مثال للدينكا هو السلطان يوسف نقور . عندما كتب الانجليز عن الدينكا وصفوهم ب ( جنتلمن اف ذي بوش ) و هذا الوصف ينطبق على السطان يوسف نقور . فهذا الرجل نبيل , بعيد عن الانانية , و مسكون بحب العدل و مساعدة الآخرين . و على عكس اغلب السلاطين الاخرين كانت منطقته تغص بكل قبائل السودان . و كانت هنالك فورة اقتصادية , فلقد شقت القنوات , و نصبت المضخات العملاقة , و حدث عمران سريع في الاربعينات و الخمسينات . و كان من الصعب السيطرة على المنطقة , و على الصيد الجائر , و الرعي الجائر . و لكن ذكاء و عدل السلطان يوسف نقور جعل الامر ممكناً . و للسلطان يوسق نقور مقدرة خارقة في ان يمتص الصدمات . بعد أن احتلت الانقاذ السلطة و تفرعنوا في الشمال و الجنوب , تعرّض سكان شمال أعالي النيل لكثير من الاجحاف و التغوّل . و لقد ذهب الرباطابي صلاح كرار , الذي أتى من جزيرة في النيل و التي تزيد مساحتها قليلاً عن بعض ميادين لكرة القدم , و هذا بعد قتل الشهيد مجدي بسبب الدولارات , و قال صلاح كرار أنه قد أتى لكي يستولي على ما سماه بالمشاريع الزراعية لصالح الدولة . فأفهمه السلطان بأنه ليس هنالك مشاريع زراعية و لكن بلدات و لا يفهم صلاح كرار ما هي البلدات . و هدأ السلطان اهله و سكان المنطقة . و كان بحكمته يعرف انها زوبعة ستنتهي في وقتها . و أن صلاح كرار ما هو الّا شاب اسكرته السلطة . و سيفيق , و الزمن كفيل بذلك . القائد جون قرنق كان يحترم السلطان يوسف نقور و يتعامل معه بأحترام كبير . و لقد أتى الرئيس سلفا كير للسلطان مقدماً احترامه للسلطان كأحد كبار الدينكا و لقد شاهدت صوراً تضم السلطان مع ابنه الرئيس سلفا كير . يندر ان يقابل الانسان رجلاً مثل السطان يوسف نقور متعه الله بالصحة , فهذا سلطان لا يظلم عنده انسان . فهو بحق رجل دولة و دين , و ذو خلق كريم . و هو و شقيقه فقوق نقور جوك رحمة الله عليه , من تأثرت بهم في كل حياتي . و لا ازال اعتبرهم قدوة بالنسبة لي . و لم اسمع طيلة هذه السنين , و لأكثر من نصف قرن من الزمان , من اشتكى من السلطان , أو تطرق له بكلمة في غير مكانها . فما أعظم السطان الذي يحبه رعاياه . و هذا ينطبق على شقيقه فقوق و ابناء السلطان و بناته . أنهم بشر اقرب الى الكمال . و لا يمكن ان اصدق أنهم لن يكونوا جزءاً من حياتنا , فهم من خيار السودانيين و لندع الكتاب بتكلم عن السطان . التحية شوقي بدري