جدل وضجيج في بريطانيا.. وتبعات سقطة مهنية في السودان : تابعنا قبل أيام تقارير وأخباراً تتحدث عن فضيحة التنصت الشهيرة التي كانت بطلتها صحيفة (نيوز أوف ذا ورلد) البريطانية، ممثلة في ربيكا بروكس المديرة التنفيذية لشركة نيوز إنترناشيونال ورئيسة التحرير السابقة لصحيفتي (الصن) و(نيوز أوف ذا ورلد)، وخمسة أفراد آخرين من بينهم زوجها تشارلي بروكس،وآندي كولسون رئيس تحرير الصحيفة المذكورة، وقد اتهموا بقرصنة هواتف شخصية لأكثر من ستمائة شخص في بريطانيا، من بينهم المغني الشهير بول مكارتني، بغرض الحصول على سبق صحافي للصحيفة المذكورة. * استدعت القضية (التي أثارت ضجة كبيرة في بريطانيا) تدخل البرلمان، عبر لجنة تحقيق أطلق عليها اسم (لجنة ليفيسون)، فأوصت بوضع تشريعات وضوابط جديدة تحد من انفلات الصحافة البريطانية، وتقلل من تطفلها على حياة البشر، وتحمي المواطنين من تغول الصحافيين على خصوصياتهم. * اضطر عملاق وإمبراطور الصحافة البريطانية الشهير روبرت موردوخ وابنه جيمس إلى الاعتذار (أمام البرلمان) عما فعلته صحيفتهما، وبادرا بإغلاق إصدارة عريقة بدأت في الصدور قبل حوالي 168 عاماً، مع أنها كانت توزع قرابة الثلاثة ملايين نسخة. * أدت الفضيحة المجلجلة إلى المطالبة بتقييد عمل الصحافة بتشريعات شبيهة بالتي تضبط عمل الأطباء والمهندسين وغيرهم، بدلاً من الاكتفاء بميثاق الشرف الذي وضعه الصحافيون البريطانيون أنفسهم (Editors' Code of Practice)، مع أنه يفرض عليهم أن يتمتعوا بالدقة والنزاهة والمصداقية والاستقلالية والعدالة والتوازن في التغطية، بالإضافة إلى ضمان حق الرد، ويلزمهم باحترام خصوصية الآخرين، واحترام خصوصية المستشفيات، ومراعاة حقوق الأطفال، والابتعاد عن السعي إلى تحقيق مكاسب مادية استناداً إلى المعلومات التي تتوافر للصحافيين من مهنتهم، وعدم تمرير المعلومات المذكورة لآخرين بغرض مساعدتهم على تحقيق مكاسب مادية، ويفرض الميثاق على الصحافيين التعامل مع مصادر موثوقة للأخبار، وعدم إيراد أي خبر إلا بعد التأكد من صحته بالكامل. * تداعيات القضية المذكورة متواترة حتى اللحظة، وقد عايشت جانباً من تفاصيلها مع الزملاء الأفاضل الذين زاروا عاصمة الضباب بدعوة كريمة من السفارة البريطانية ومعاهد التعليم البريطانية ومؤسسة (تومسون)، كما خصص لها البروفيسور ريتشارد تايت (الإعلامي البريطاني والأكاديمي والباحث المعروف) جانباً مقدراً من زمن المحاضرة القيّمة التي ألقاها على مسامعنا في مقر مؤسسة تومسون. * تحدث تايت عن ميثاق الشرف الذي تواثق عليه صحافيو بريطانيا، وذكر أن صحيفة (نيوز أوف ذا ورلد) اتهمت من قبل بالتنصّت على هواتف عدد من المشاهير، وعلى أفراد من الأسرةالمالكة في بريطانيا، ودفعت رشىً لرجال شرطة بغرض الحصول على أخبار حصرية حول بعض الجرائم. *تداعيات القضية المذكورة مستمرة، بعد أن تم تحويل المتهمين فيها إلى المحاكمة في المحكمة الجنائية لإنجلترا وويلز (أولد بيلي). * الفضيحة المذكورة اقترنت بأخرى شبيهة تدور تفاصيلها عندنا في السودان هذه الأيام، بُعيد إقدام أحد الناشرين على إعادة تحرير عمود كاتبة معروفة تعمل في صحيفته، حيث أضاف عدة فقرات إلى مقالها من دون علمها ولا موافقتها، نال فيها من اثنين من زملائه، ووجه إليهما إساءات قبيحة من وراء حجاب. * فتحت السقطة المهنية غير المسبوقة جدلاً (نتوقع له أن يطول) يتعلق بالتشريعات واللوائح المنظمة للنشر في السودان، لأنها تحوي قيوداًعدة، تحدد هوية من يتولون المناصب القيادية في الصحف، وتشترط حصولهم على مؤهلات جامعية، وسنوات خبرةٍ بعينها، يفترض فيها أن تجعلهم مؤهلين لتولي مسؤولية الإشراف على الصحف. * اللوائح المذكورة أغفلت تعريف هوية الناشرين، ولم تضع أي ضوابط ولا اشتراطات لهم، وهي تفتح بتلك الثغرة الكبيرة الباب واسعاً أمام كل من هبّ ودبّ ليدخل ساحة المهنة الرسالية، ويصدر ما شاء من الصحف، ويدوس على قواعد المهنة بقدميه، ويفعل ما يشاء. * بموجب القوانين واللوائح الموجودة حالياً يمكن لأي شخص يمتلك قدراً من المال أن يصدر صحيفة أو مجلة أو أي إصدارة أخرى، حتى ولو كان أميّاً، أو غير مؤهلٍ لولوج ساحة مهنةٍ حساسة، يمثل العاملون فيها ضمير الأمة، ويقومون بدور الرقيب على المجتمع، ويشكلون مرآته الراصدة. * المسألة أكبر من تخفي ناشر خلف أثواب امرأة تعمل معه لتصفية حسابات تخصه مع آخرين، بل تتصل بقصور فادح ومؤثر في التشريعات التي تحكم المهنة، وقد تحدثت في هذه القضية قبل حوالي شهرٍ من الآن، خلال اجتماع عقدته لجنة الطباعة بالمجلس القومي للصحافة والمطبوعات مع مسؤولي المطبعة الدولية، وذكرت أن قوانين ولوائح النشر في السودان تضع اشتراطاتٍ صعبةٍ لمن يرغبون في تولي المناصب القيادية للصحف، لكنها تغفل تحديد أي سقف لمؤهلات من يصدرون الصحف، وتترك الباب موارباً أمام من يفتقرون إلى المؤهلات الأكاديمية والمهنية وحتى الأخلاقية ليدخلوا ساحة النشر، ويعيثوا فيها فساداً، ويفعلوا ما يشاءون. * تأثير الناشر على الصحيفة أخطر من تأثير رئيس التحرير، لأنه يتولى وضع خطها التحريري، ويتحكم في مصير العاملين في المؤسسة، وبمقدوره أن يفصل هذا ويعين ذاك، وباستطاعته أن يقصي كل من لا ينصاع إلى رغباته، حتى ولو كانت غير مبررة ولا تتفق مع القواعد المهنية، فكيف يترك أمر الناشرين بلا ضابط يحكم عملهم، وكيف لا يتم التأكد من مؤهلات الناشرينوتمام قدرتهمعلى أداء مهام حساسة قبل السماح لهم بإصدار الصحف؟ * كم من ناشرٍ قتل صحيفةً كانت ملء السمع والبصر؟ وكم من ناشرٍ لا يتوافر على الحد الأدنى من المؤهلات الأخلاقية والمهنية والأكاديمية حوّل إصدارةٍ مؤثرةٍ إلى أثرٍ بعد عين؟ وكم من ناشر أهان صحافيين يفوقونه علماً وخبرةً وتأهيلاً، وأساء استخدام سلطاته، وأجبر من يعملون معه على إتيان ما لا يريدونه ولا يرغبون فيه؟ * السقطة التي حدثت مؤخراً لن تكون الأخيرة ما لم يتغير الوضع الحالي، ويتم وضع شروطٍ تحدد هوية الناشرين، وتضع ضوابط وموجهات تحكم عملهم، وتمنع تسلل الفاقد التربوي وأصحاب الأجندة الخاصة والنفسيات المشوهة إلى ساحة المهنة الرسالية مزمل أبو القاسم---اليوم التالي