ثمّة مجتزأ لمقولة شهيرة أطلقها مارسيل رايش رانيكي: "إنّ المال لا يجلب السعادة ولكنني حين أكون حزيناً أفضل البكاء في التاكسي وليس في المترو"! عندما سقطت الأندلس بكى آخر ملوكها من بني الأحمر، وقالت له أمه بحسرة: "إنك تبكي كالنساء على ملك ضيعته، ولم تحافظ عليه كالرجال..!" سوابق كثيرة في التاريخ الحديث أخرجت بكاء الرجال من دائرة الفعل اللا إرادي المصحوب بالعجز والخجل إلى ساحات الممارسة السياسية، ودللت على أن البكاء السياسي سواء أكان صادقاً أو مصطنعاً دخل في عالم اليوم ضمن الوسائل الفعالة التي يتقن بها الساسة والقادة استمالة شعوبهم لتحقيق مبتغاهم. سياسيون كثر انسربت من بين أعينهم دموع ونطت من بين صلابة وتماسك يخالها الناظر لهم ضعفا من بعد قوة ارتسمت في مخيلة الكثيرين.. ثمّة العديد من المواقف التي فاضت فيها أعين سياسيين وسياسيات أو أجهشوا بالبكاء بسبب مواقف صدق أو بدواعي إحباط من وضع معين، وهذا لا يمنع براعة من قبل آخرين من قبيلة السياسيين في صناعة الصور الذهنية الباكية لإحداث تأثير ما أو إصابة هدف معين بعد أن تنطلى على الجميع خدعة الدموع. سياسيون كثر ممن مضت عليهم الأعوام يطوون العام بكل تفاصيله وذكراه وقراراته حلوها ومرها ويفتحون صفحة عام جديد قد لا يختلف كثيرا عن سابقه، وهم ممسكون بمقاليد الحكم والتصرف في الأمور، تأتي عليهم لحظات تحيلهم من بعد قوة إلى ضعف تفضحه الدموع. تم ضبط كثير من السياسيين الكبار وهم في حالة تلبس بالدموع في مناسبات مختلفة، إلاّ أن ذلك البكاء لا يكون في حالات الضيق أو الانهزام كتلك التي يواجه فيها السياسيون الاعتقال أو يُساقون إلى الإعدام.. لكنهم يبكون من بعض الممارسات السياسية اليومية التي يبدو أنها توفر حيثيات كافية للبكاء. ** بمنديل ناصع البياض، مسح البروفيسور إبراهيم غندور مساعد رئيس الجمهورية حينما كان يتقلد وقتها منصب أمين العلاقات السياسية بالمؤتمر الوطني، الدموع التي انسربت من عينيه على نحوٍ مباغت أثناء حديثه العاطفي عن الوحدة بمدينة عطبرة بصالة المعلم أمام حشود كبيرة في فاتحة اجتماعات اللجنة المركزية للنقابة، كان يتحدث عن أهمية العمل من أجل تحقيق الوحدة والوعي بالمؤامرات التي تستهدف تقسيم البلاد، ثم قال أن التاريخ لن يرحمنا إذا انفصل السودان، ولن يرحم من يقف على الرصيف.. أجهش غندور بالبكاء. بعدها، تبعه حتى سيارته العديد من أفراد اللجنة المركزية في أجواء مشحونة بالعاطفة والخوف على وحدة البلاد فيما يبدو، كان ذلك وسط ذهول قيادات النقابات التي شاركت وقتها في ذلك اللقاء من ثماني دول عربية وانطلقت منه دعوة للوحدة النقابية على الصعيد العالمي في الوقت الذي تواجه فيه وحدتها على الصعيد الداخلي، بتحديات تحمل على البكاء. دموع البروف لم تعدم بعض المتحاملين عليه ممن صنفوها بكونها تذرف من أجل آبار البترول المتوقع فقدانها في حال الانفصال، وبمعنى أدق، هي دموع مصنوعة بعناية فائقة لإصابة هدف سياسي. * قوش.. الدمعة لو بتعين الفريق صلاح قوش، مدير مخابرات الإنقاذ السابق، اعتمدت عليه قيادات الإنقاذ العليا اعتماداً كلياً، لتثبيت أركانها داخلياً وخارجياً، تدرج الرجل في المناصب، صانعاً كاريزماه، وأوكلت له المهام الأمنية والاستخباراتية، وعرف بكونه شخصية عنيفة ومصادمة، وشراسة لازمته حينا من الدهر، وجعلت منه أسطورة، تنامت بفعل الغموض والسرية التي صنع أرضيتها الرجل بنفسه لنفسه. ذكر قوش أصبح مصحوباً بحالة من الرهبة والخوف، وطوال سني تقلده منصب جهاز الأمن ارتسمت حوله صورة رجل المخابرات التي تعكسها الأفلام يحرك بين أصابعه كل خيوط اللعبة السياسية والأمنية ممسكاً بالتفاصيل، دون أن تنسرب من بين أصابعه طوال عقدين من عمر الإنقاذ، إلى أن دارت عليه الدائرة وأبعد خارج الجهاز وبعدها مستشارية الأمن التي أمضي فيها أشهراً قلائل. جرت عليه الاتهامات بالتخطيط لمحاولة انقلابية، وأطلق سراحه بعدها بعفو رئاسي. قوش بكل تلك (الهيلمانة) أجهش بالبكاء لحظة وصوله منزله والتقائه أسرته التى بادلته الدموع وقال إنه لا زال: "ابن الإنقاذ منها وليها وفيها ولم تتغير مبادئه وإنه لا زال ابن الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني وممثلاً للدائرة (5) مروي بالبرلمان"، ورغم أن قوش يحسب من بين رجال حكم الإسلاميين الأقوياء، لكن هذا لم يشفع له في صراعات الطاقم الحاكم الطاحنة. * كمال عبد اللطيف.. بدعة سياسية حينما غادر وزير المعادن السابق كمال عبد اللطيف مقعده الوثير في الوزارة جراء التعديلات الأخيرة، قرر العاملون في الوزارة رد (الجميل) للرجل فأقاموا له حفلا فخيما أحاله كمال لسرادق عزاء، لعل مفارقة المنصب هي ما جعلت دموع الرجل تفضحه بالبكاء في بدعة سياسية لم يبتدعها أي سياسي قبله، لكن الرجل الذي تصيدته عدسات الكاميرا وضبطت دموعه وبكاءه الأقرب للعويل مع العاملين بالوزارة، في أحاديث في الأيام الماضية برر ما بدر منه قبل أن ينفيه وقال إن التعبير عن المودة والحب إن كان بدعة فنعم البدعة إذن، وأقسم بالله إنه لم تنزل منه دمعة واحدة ولم يجهش بالبكاء وعد ما تناقلته عنه المدينة بأنه كلام ناس مغرضين، وقال: إذا كان بكاء السياسيين بدعة فإنها بدعة حسنة ومستحسنة. * أبوعيسى.. دموع الربح والخسارة فاروق أبو عيسى زعيم تحالف المعارضة، طيلة سني عمره وهو ينافح من أجل قضايا آمن بها في عمله السياسي، للدموع عند الرجل دلالات سياسية تحملها، أبوعيسى لديه مقولة قالها مرة عن دموع السياسي، حين وصفها بانها دموع غالية لا تُذرف إلاّ لمن يستحقها من الناس أو الأحداث. وقال الرجل إن الذي يبكي هو السياسي الإنسان المرتبط بقضايا وطنه وبمن يعملون معه في ميدان السياسة، فعندما يفتقد أحدهم، أو يفقد واحداً من الأهداف التي كان ينادي من أجلها فإنه يبكي. أما السياسي التاجر، الذي يتعامل مع السياسة بمفهوم الربح والخسارة، فإنه لا يبكي ولا يعرف الدموع. * دموع الرؤساء إن رؤساء العالم هم عادة أقوى الرجال أو هكذا يفترض أن يكونوا. إلا أن القوة السياسية من الممكن أن تذوب أحيانا أمام المشاعر الإنسانية داخل كل منهم مهما كان جبروته أو عظمته التي يتصورها الآخرون ويوهم بها من حوله، وفي لحظة ما تتغلب الطبيعة على الهالة فتنهمر الدموع ليس فقط في الخفاء ولكن أيضا أمام عدسات المصورين.. وذرف الرئيس "عمر البشير" الدموع عصرا في مطار الخرطوم الدولي، عندما حمل وزير الدفاع "عبد الرحيم محمد حسين" جثمان وزير الصناعة "عبد الوهاب محمد عثمان" الموشح بعلم السودان، قبل أن يصلي عليه "البشير" ومن خلفه نائبه الأول "علي عثمان محمد طه"، ونائبه "الحاج آدم" ومساعدوه وقيادات الدولة وزملاء الراحل، دموع الرئيس لفقد عبد الوهاب مردها ربما إلى العلاقة القوية التي ربطت بين الرجلين منذ سني الإنقاذ الأولى؛ إذ يعد عبد الوهاب من كوادر الحركة الإسلامية الأساسيين منذ تأسيس (دانفوديو) وشغل منصب مدير لها، ثم ارتباطه بالوزارة التي سبق للرجل أن تقدم باستقالته منها لأكثر من مرة كان الرئيس يقابلها في كل مرة بالرفض، إلا أن مغادرة عبد الوهاب الدنيا بأسرها ومناصبها الوزارية جاءت نهائية هذه المرة ولم يستطع الرئيس رفضها، وهذا ربما ما اختلج في نفسه وجعل دموعه تغالبه على النزول. رؤساء كثر غالبتهم دموعهم مثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما عقب حملته الانتخابية الثانية التي جاءت به رئيسا للمرة الثانية، كما بكى سلفاكير ميارديت رئيس الجنوب، في آخر اجتماع للحركة الشعبية ضم كل القيادات في بور واعتبر أنه عاد بالزمن مرة إخرى إلى حيثما انطلقت الحركة الشعبية. * راشد الغنوشي.. دموع على الإسلاميين ذرف الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية الدموع في منزل الشيخ حسن الترابي، كما جاء في تقارير الصحف غداة زيارته لمنزلٍ ألفه الغنوشي وألف أهله رؤية قيادات الحركات الإسلامية في الوطن الكبير تسعى للقاء الشيخ الترابي بعد نجاح الثورة الظافرة في السودان ووصول أول حركة إسلامية للحكم بعد أفغانستان. تذكر الشيخ راشد الغنوشي الزمن الجميل بلغة أهل الفن، والعصر الذهبي بلغة أهل الرياضة، ويقين الغنوشي أن مقولة أجمل الأيام لم تأت بعد هي محض تفاؤل وحلم زائف لحقن شرايين المسلمين بجرعات الأمل.. وقد غربت شمس تلك الأيام التي كان فيها منزل الشيخ الترابي قبلة الزائرين من المعجبين والمشفقين والحادبين على السودان وطناً وعلى الإسلام ديناً ومشروعاً سياسياً خصبته وحدة الصف بفايتمينات المناعة قبل أن يضعف أثرها ويغرد (البوم) في سماء وطن قسمته الأقدار لوطنين ومشروع إسلامي ضربه الجفاف والتصحر وانشق لحزبين. هل بكى راشد الغنوشي المكان أو ذرف الدموع من أجل الزمان؟! وبكى حباً لوطن احتضن الإسلاميين ساعة ضعفهم ولفظهم ساعة قوتهم؟! أم بكى الذكريات والخرطوم كانت ملهمة للإسلاميين في كل مكان وأشواق بددتها قسوة الواقع وأماني تدحرجت من مشروع الأمة لمشروع الدولة، والإسلاميون كل يوم تعصف بهم رياح تقسيم السودان ليس منه ببعيد منذ مفاصلة رمضان الشهيرة وحتى تغييرات نوفمبر الأخيرة وهي تخرج إسلاميين آخرين؟. أجهش أمين حسن عمر بالبكاء في مجلس شورى الحركة الإسلامية الأخيرة بعد اتخاذ القرار بإبعاد غازي صلاح الدين قائد مجموعة الإصلاحيين بالوطني، دموع أمين حينها لعلها تبكي إبعاد رفيق دربه في جامعة الخرطوم والحركة الإسلامية، وقد وصف الرجل إبعاد غازي ومجموعة الإصلاحيين بأنه خطأ وبأنه كان بالإمكان حل المشاكل بالحوار المتبادل. * نافع.. دموع الصلابة صورة الصلابة التي ارتسمت عند الكثيرين عن نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية السابق استطاعت القيادية في الهيئة الشعبية لدعم الوحدة المرأة إخلاص قرنق التي سطرت اسمها مع دمعة مالحة، أن تجربها على الانسياب طواعية من عينيه عقب كلمة حماسية عن ضرورة الوحدة ألقتها في احتفالية بقاعة الصداقة، إخلاص بما أوتيت من بلاغة أبكت د.نافع، في مشهد تاريخي ووطني غير مسبوق تحوّلت القاعة الدولية بقاعة الصداقة خلال (ملتقى المرأة للسلام والوحدة) الذي نظّمه الاتحاد العام للمرأة السودانية إلى ساحة للحزن والبكاء انفعالاً مع إخلاص قرنق حول الوحدة ومخاطر الانفصال الذي كان ممزوجاً بالبكاء وانهمرت دموع نافع اثناء حديث إخلاص، الرجل الذي رويت حوله الروايات إبان اتفاق الحريات الأربع مع مالك عقار والهجوم الذي تعرض له من منبر السلام العادل والتصقت به الأوصاف (حكاية الصقر الذي تحول إلى حمامة). دموع نافع ربما فسرتها غبينة الرجل وإحساسه بأن (الوحدة) والحفاظ على السودان موحداً انسربت هي الأخرى من بين أيديهم وهم ممسكون بحكم البلاد على ذات طريقة انفلات دموعه من مقلتيه وعجز عن إمساكها. وقال الرجل حينها إن إخلاص إن لم تفعل للسودان غير تلك الكلمات التي أبكته لكفاها. نافع صاحب المفردات المستفزة بحسب خصومه السياسيين مثل (لحس الكوع)، فشل في السيطرة على دموعه من أن تقفز من عينيه ولم يتمالك نفسه من البكاء وهو يتحدث فى منطقة ود بندة بولاية بشمال كردفان، المنطقة التي قتل فيها أكبر خصوم الحكومة العسكريين (خليل إبراهيم) زعيم حركة العدل والمساواة، بعد تذكره معارك الميل أربعين التي خاضتها الحكومة أثناء حربها الطويلة مع دولة الجنوب قبل أن يصف منطقة ود بندة التي اغتيل فيها خليل ب (مقبرة الأنجاس) ونعت خليل بالهالك. * ليست دموع تماسيح المحلل السياسي حاج حمد رأى أن دموع السياسيين ليست دموع تماسيح وأن البعض لديهم عواطف جياشة وأن بعضهم قد يسعى لتحقيق وضع أو شيء خلال مسيرته السياسية يتحول إلى بكاء لإحساسه بالنقص والعجز عن تحقيق ذلك الشيء، وقال ل(اليوم التالي) إن بعض السياسيين تصيبه الصدمة من الدعاية التي ظل يقدمها للشعب.. ولحظات الفقد السياسي عند حاج حمد شبهها بلحظات الفقد الإنساني وربما هو مرد الدموع التي تغالب السياسي، ولفت الرجل إلى أن بعض السياسيين قد تكون لديهم هشاشة إنسانية وبعضهم تربطهم صداقات وتداخلات سياسية وذكريات مع غيرهم من السياسيين وخاصة الإسلاميين، ورأى أن الموقف الإنساني يفوق الكسب السياسي وقد تكون الدموع صادقة ولكنها تكون صادمة للسياسي وتحسب عليه في السياسة. صحيفة اليوم التالي