لم أقرأ حتى اليوم كتاباً دقيقاً صور حال السودان والسودانيين منذ أن ولج الاستعمار الى هذه البلاد وقص علينا أدق تفاصيل حياة السوداني حينها وما هي درجات مشاعره لحظة مثول المستعمر الانجليزي تحديداً وتجوله في شوارع يجزم تماماً السوداني أنها ملك حر له... وكيف كان حال السوداني وهو صاحب الشهامة وهو ينظر لوطنه يسلب كله ولا حول له ولا قوة... كنت أتمنى أن يكتب تاريخ المستعمر هكذا نقلاً عن سودانيين عاشوا الحياة بتفاصيلها.. وكيف كانت حياة السوداني في المديريات آنذاك.. وكيف كانوا ينظرون للرجل الأحمر صاحب العيون الخضراء يتجول بين عوائلهم ويأمر وينهي حينها.. لكن وجدت قصة قد يكون البعض مروا عليها تقص بعض الشىء من ذلكم السوداني الشهم الذي لا يقبل «الحقارة». تقول القصة: كان الخواجة المستعمر يتجول بصحبة مترجمه السوداني بشارع النيل ليتفرج على الخرطوم التي أول مرة في حياته يشاهدها حيث جاءها من مستعمرة الهند (درة التاج البريطاني) منقولاً منها إلى مستعمرة السودان... وفي ذلك الصباح وقبل استلام مهامه... وكان أول ما لفت نظرهُ في سكان السودان ذوي السحنة السوداء قوامهم الفارع وأجسادهم القوية وعضلاتهم المفتولة... وقفز إلى ذاكرته منظر أجساد ضئيلة وقامات قصيرة من شعب المستعمرة التي جاء منها، وكيف أن تلك الأجساد كانت تنوء بجسمه السمين، وقال إن السودانيين هم الأقدر على حمله والمشي به في مشاويره دون أن يترنحوا تحت حمله الثقيل. فقال لمترجمه وهو يشير لأحد السودانيين المارين من أمامه، وكان شاباً طويل القامة، وقوي البنية، أن يناديه ليركب على كتفه فيتجول به.. ليشاهد الخرطوم من علٍ فتبسم المترجم بابتسامة غامضة.. ولم يتردد المترجم أملاً في أن يتعلم الدرس الأول من هذا الشاب ثم ناداه... يا زول تعال فجاء الشاب نحوهما وقال: حبابكم فقال له المترجم: الخواجة ده عايز يركب فوق ضهرك وتمشي بيه عشان يتفسح.. وعقدت الشاب الدهشة لسانه.. وقال له: قلت شنو؟... فكرر له طلب الخواجة.. كان الرد سريعاً وحاسماً: قول للخواجة نحن عندنا الكبير بيركب فوق ضهر الصغير ولم ينتظر ترجمة المترجم ودفسه تحته وركب فوق كتفيه وقال له: يا خواجه يا نجس أوريك الما شفتو لا في الهند ولا في بلدكم. وبعد تعب شديد مرقوه من تحت رجلين الشاب. ووضع الشاب في الحبس وحدد موعد لاحق لمحاكمته. ووصل الخبر الى حاكم عام السودان الذي أمر باطلاق سراح الشاب السوداني. وصدر قرار بنقل مستر كلارك فوراً من السودان، وأعلمه الحاكم أنه رغم أن السودان مستعمرة لكنها لا تشبه بقية المستعمرات الأخرى البريطانية.. وغادر النجس السودان فوراً وهو مندهش أكثر منه حانقاً - ويقول الراوي للقصة انه وجد بريطانياً شارف على السبعين ينتظر الدخول على القنصل وأثناء الحديث معه قال له: جئت لاعتذر لرجل سوداني بعينه وللسودان، لقد ارتكبت حماقة في شبابي وفقدت الأمل بعد أن استقل السودان في عام 1956م في أن أجد شخصاً أبحث عنه. وأطلعت على وثائق مستعمرة السودان فوجدت العجائب، وفعلاً علمت انه لم يكن لنا وجود هناك مع أفذاذ هذا الشعب المتفرد، وعندما خرج من القنصل كان كلارك مبتسماً وهو يحمل عنوان الزول واسمه عبد الرحيم محمد طه ومعلومات عنه، وأنه مازال على قيد الحياة ويسكن الديوم الشرقية لكنه مريض بالمستشفى أثر جلطة ألمت به.. هذا الرجل قوى الشكيمة والذي أشهد له بذلك (الخواجة فهم حاجة من يومها) لذا اطلب نقل عبد الرحيم واحد ابنائه للعلاج هنا في بريطانيا و عبد الرحيم كان يسكن بيتاً هالكاً، فقال كلارك لقد فعلت خيراً في انسان يستحق لرجولته وعزة نفسه ولفقره وظروفه الصحية والمادية.. وخرج وكأنه ابن العشرين مرتاحاً مبتسماً.... (إنتهى) هذا.. بالطبع يجب أن ننشره حتى يعلم الكثيرون ان السوداني مازالت سمعته الطيبة موثقة في كل الوثائق البريطانية، وانه إنسان غير كل الناس - شهم قوي لا يعرف المسخرة والهوان.. لكنه في ذات الوقت انسان طيب بسيط.. لكن الله «لا يوريك» يوم زعله وغضبه عاش السوداني كريماً رغم الاستعمار والاستبداد حتى دحره بلا رجعة.. السوداني صحيح يمر بصعوبات في حياته وفي وطنه ولم يسعد يوماً بالاستمتاع بسودانه الرحب وفير الخيرات - ولا يمارس السوداني هذا قوته ورجولته فقط على المستعمر بل يتعداه، واذا اعترض طريقه اي شخص سيرى منه ما لا يرضيه خاصة اذا ظُلم أو اُحتقر من أى شخص مهما كان هذا الشخص.. وإنسان لا يقبل الحقارة وهو بهذه الصفات لا يخاف عليه أبداً.. وسيظل السوداني حافظاً لعهوده مع ربه ووطنه وأخيه السوداني على مرور الأزمان بإذن الله مهما اعترته بعض الظروف القاسية التي افقدته طعم الحياة.. لذا مهما يقدم لهذا الإنسان فلا يعتبر نهاية المطاف بل يستحق الكثير الكثير من التقدير والاحترام - (عفارم عليك أخوى خَضَّر الله ضراعك وقَوَّى ساعدك) «إن قدر لنا نعود». صحيفة الإنتباهة د. حسن التيجاني