المتتبع للحركة السياسية السودانية منذ 27 يناير الماضي وحتى صباحنا هذا سيعييه لا محالة كمّ المفارقات والتناقضات التي تتحرك في مفاصلها وتدير فصائلها، فبدلاً من أن تفضي دعوة الرئيس البشير للمعارضة إلى الحوار إلى بنية وطنية أكثر وفاقاً، كانت خلاصتها الراهنة وبالاً، مرحباً بكم في الواقع المعارضي الجديد؛ حيث المزيد من الانقسام بخروج غير معلن، وغير آمن، للترابي من المنشيّة إلى القصر، يسابقه في ذلك غريمه المهدي، غير آبهين بحلفائهما من الذين وضعوا حزمة من الشروط لقبول الدعوة، تمنّع حيالها الحزب الحاكم، فآثروا صناعة تحالف جديد مناهض للتحالف المرتقب -كما هو في مخيلتهم- عبر اتفاق مع الجبهة الثورية، أسّس لرؤية مشتركة، وتم الإعلان عنه في مؤتمر صحفي الأمس (الثلاثاء).. مهلاً، لم تنته القصّة بعد؛ كانت إحدى عجائب الإعلان الجديد إعلان مغاير من حزب البعث العربي ينفي صلته بالأمر، ويؤكّد من خلاله أنّه "ليس طرفا في هذا الاتفاق"! حسناً، إليكم ما جرى؛ بتمهّل وثقة شديدتين يخرج عضو الهيئة العامة لتحالف المعارضة، صديق يوسف، ورقة لا تزيد سطورها عن (20)، وكلماتها عن (215)، ذيّلت بتوقيع فاروق أبو عيسى، نيابة عن التحالف، ومالك عقار، نيابة عن الجبهة الثوريّة، وتعلن عن اتفاق الطرفين على شروط لازمة لقبول الدعوة للحوار، أبرزها وقف الحرب، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، والاتفاق على آلية مستقلة لإدارة الحوار مع خريطة طريق وحكومة انتقالية تنفذ ما تم التوصل إليه في الحوار وتعقد مؤتمرا دستوريا لإيجاد حل شامل لكل المشاكل وتجري انتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية. وبترتيب يبدو أنّه متّفق عليه مسبقاً، لتدارك أيّ خلاف -أو بالأحرى اختلاف جدي- خيم على اجتماع ممثلي الأحزاب؛ خرجوا مباشرة إلى المؤتمر الصحفي، حيث أفسح يوسف مقعده في منتصف المنصة لممثل حزب البعث العربي محمد ضياء، الذي قال على نحو مفاجئ وبكلمات مقتضبة ولهجة صارمة، مع تجاعيد يرسمها الغضب إنّ حزبه "ليس طرفا في هذا الاتفاق ولا علم له بتفاصيله ولم يستشر فيه".. بدا الأمر مدهشا للصحفيين الذين دعوا على عجل للمؤتمر الصحفي، لكن الأمر تعدّى الدهشة إلى الغرابة وضياء يستطرد: "نحن لسنا ضد الاتفاق مع الجبهة الثورية ونؤيد هذا النهج لكننا نعترض عليه من الناحية الإجرائية، لأن الأحزاب لم تجتمع لمناقشته وكثير منها لا علم لها بهذا الاتفاق". بعدها منحت الفرصة للصحفيين للأسئلة التي كان أولها سؤال مباشر عن هوية الأحزاب المؤيدة للاتفاق والرافضة له أو بالتدقيق التي لا علم لها به لأن إفادة ضياء كانت واضحة وبحضور ممثلين لأحزاب وغياب أحزاب أخرى؟ لكن يوسف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وممثله في التحالف اكتفى بالقول إنّ "هذا خلاف إجرائي ستتم معالجته داخل التحالف واعتراض حزب البعث ليس على جوهر الاتفاق". جوهر الاتفاق هنا يعيد إلى الأذهان وثيقة الفجر الجديد التي أرسلت الأحزاب "ممثلين" عنها للتوقيع عليها في كمبالا مع "زعماء" الحركات المسلحة ثم تنصل عنها "رؤساء" الأحزاب غداة التوقيع عليها بحجة أن ممثليهم تجاوزوا التفويض الممنوح لهم وهو إقناع الحركات المسلحة بتبني الخيار السلمي بدلا من العسكري لإسقاط النظام ومناقشة رؤية كل طرف لحل أزمات البلاد. حسناً، تنصل الأحزاب يمكن فهمه من نصوص الوثيقة التي أقرت إسقاط النظام عبر المسارين السلمي والعسكري وكان هذا مبررا كافيا عند الحزب الحاكم لتهديد الأحزاب بحظر نشاطها وفقا للقانون، بجانب فصل الدين عن الدولة الذي كان مبررا كافيا لتنصل حزبي الترابي والمهدي علاوة على منح الوثيقة ضمنيا أقاليم البلاد الحق في تقرير مصيرها وهو الحق الذي يطعن في الهوية التي يمكن النظر إليها كمحور خلاف بين الجبهة الثورية وحزب البعث الذي يفهم اعتراضه اليوم في هذا السياق وليس السياق الإجرائي الذي قاله ضياء في تصريحه الدبلوماسي. إعلان ضياء كان شاهدا من شواهد انقسامية تتكاثر يوما بعد آخر وليس بعيدا عنها دعوة المهدي لرؤساء أحزاب المعارضة لاجتماع بعد شهور من القطيعة وتجميد حزب الأمة لعضويته في التحالف وذلك بعد يوم من لقاء البشير والترابي، اللقاء الذي فسره البعض كاصطفاف جديد للإسلاميين يريد المهدي أن يكافحه باصطفاف مع رفاق الأمس، وهم ذات الرفاق الذين اتفقوا بالأمس مع الجبهة الثورية التي آخر ما تتخيله الآن هو أن يكون المهدي حليفا فاعلا لها هذا إن لم تكن تصنفه مع اصطفاف القصر. بمثل هذه المعطيات مصحوبا معها الرفض غير المعلن من شبكات مصالح موزعة على سراديب الحزب الحاكم لأي تسوية تهدد مصالحها التي سهرت عليها ربع قرن من "الإنقاذ" فإن أفضل ما ستنتهي إليه مداولات الحوار هي سيولة أكثر للحركة السياسية مع عملية انتقال مضطربة من المعارضة إلى السلطة ومن المعارضة الناعمة إلى معارضة خشنة ومن معارضة خشنة إلى معارضة مسلحة تعرك البلاد باحتقان سياسي مجتمعي ليست لها مناعة لصده ولو لشهور فقط. صحيفة اليوم التالي