وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر تشتري حصتها من مياه النيل بحقائب الدولارات السرية
نشر في الراكوبة يوم 01 - 06 - 2010

في مصر يسمونها \"ليلة الدمعة\".. دمعة العين التي خرجت من إيزيس حزناً علي زوجها أوزيريس الذي قتله ومزق جثته ست.. قطرة المياه الأولي التي تبشر بفيضان النيل في عز الصيف.. اللؤلؤة الصافية الساخنة التي تسقط بين ساقي حابي.. إله النهر.. فتجدد شبابه.. وحيويته.. وخصوبته.
قبل نحو 6825 كيلومتراً.. في منطقة إثيوبية.. يطلق عليها \"بحر دار\" يسمونها \"الليلة الحمراء\".. تسقط الأمطار الاستوائية الشرسة هناك وتأكل حمرة التربة الجبلية.. وتحتضنها في رحمها.. وهي تلقي بنفسها من مرتفعات تصل إلي 6133 قدماً إلي مجري النهر الخالد.
وتستقبل الفتيات هناك مياه السماء وهن عرايا.. فيشتد العود.. ويتمرد الصدر.. ويستعد الجسد للتعبير عن رغباته.. ويتحين الرجال الصغار الفرصة للقنص.. والخطف.. والعشق.
إن عروس النيل، الأسطورة الخرافية التي شاعت في مصر حيث دولة المصب، حقيقة مجسمة في إثيوبيا حيث دولة المنبع.
وقد شهدت بنفسي في تلك المنطقة البعيدة حلقات جماعية للرقص الناعم علي أنغام الناي الساحر.. تقترب أجساد الجنسين ولا تلتقي.. تشتعل نيران الشهوة فيها.. لكن الأمطار تطفئها.. ونسمع صوتاً شجياً.. يغني للآلهة التي تركت عروشها العلوية وتنكرت في حبات مياه عفية.. وبرية.. وقادرة.. تخلق الخضرة والشجرة والثمرة والعلقة.
كنا مثلهم منذ نحو خمسة آلاف سنة.. نلقي بأنفسنا في النهر عرايا كي نتطهر من الجفاف.. وننبذ الصفار.. والسنوات العجاف.. ونجدد الوفاء.. وفاء النيل.. وهو عيد زيادة منسوب المياه.. يخرج فيه الكهنة حاملين زورق آمون المقدس.. تتقدمهم تماثيل الملوك.. ووراءهم الفرعون.. أول الشاكرين وآخر المبتهلين.. ولابد من تمثال لعذراء ليتزوجها النهر الذكر الحي.
ولو تأخر الفيضان توجه الفرعون بنفسه إلي أقصي الجنوب.. حيث جبل السلسلة القريب من كوم أمبو.. ليستعطف النهر بالهدايا.. يقدم له ثورا رماديا.. وبردية تشبه التعويذة السحرية لحمله علي الخروج من مرقده.. ويعزف الشباب علي العود.. وترقص الفتيات بقطع صغيرة من الملابس.. في حالة إغراء لا مثيل لها لمجري مائي.
وعلي جدران المعابد حُفرت صورة رمسيس الثالث وهو يقدم للنيل تمثال امرأة جميلة كي تكون زوجة له.. ومن يومها اعتبر النهر مسئولية حاكم مصر.. فرعون أو ملك أو رئيس.. أضيفت إلي مسئوليته في الوحدة الوطنية التي بدأت مع مينا موحد القطرين.
ويبدو أن وضع مسئولية النيل في عهدة السلطة العليا، مع ضبط قوته وتهذيبه والتحكم فيه بقوة التخزين العملاقة للسد العالي، أسقط قدسية النهر في نفوسنا.. فلم نعد نحترم وجوده.. أو نخشي بخله.. أو نطلب رجاءه.. وتحول في حياتنا من نهر إلي مصرف.. ومن مصدر للحياة إلي مرسي سفن تنطلق تحت ستار الليل حاملة الممنوعات.. مخدرات وعاهرات ومتفجرات.
وشاءت الأقدار أن أشهد معركة السيطرة علي النهر التي جرت في أسوان.. حيث أجبرتنا ظروف حرب السويس علي الرحيل إلي هناك لنكون بالقرب من رب العائلة الذي كان واحدا من أول مجموعة برئاسة المهندس صدقي سليمان جاءت تخطط وتدبر لتنفذ ذلك المشروع القومي العظيم تحت درجة حرارة تقترب من الجحيم دون أجهزة تكييف أو كوب ماء مثلج يبل الريق.
جئنا من الإسكندرية.. أقصي الشمال.. إلي أسوان.. أقصي الجنوب.. تركنا المدينة العامرة الساحرة إلي قرية نوبية سمراء لا تعرف من متع الدنيا سوي الدوم والكركديه والبلح الجاف.. وتصلها الصحف بعد يومين.. وتستورد البرتقال من سوهاج.. وآخر فيلم عرفته سينما \" أبو شوك \" سبق عرضه في القاهرة قبل عشر سنوات.. واللعبة الوحيدة التي تعلمناها من أقراننا الصغار في منطقة \"الحكروب\" هي صيد العقارب بأسياخ نغرسها في ظهرها دون خوف أو شعور بالخطر.
إن أسوان التي يعرفها المصريون اليوم ليست هي أسوان التي عرفتها في نهاية الخمسينيات.. مشروع واحد نقلها من زمن إلي زمن آخر.
لكن.. المشهد الوحيد الذي لم يتغير.. مشهد النيل الساحر عند فندق \" أولد كتراكت \".. حيث الجنادل تبرز وسط المياه.. تاركة الطيور تمارس الحب علنا علي قممها السوداء بفعل القرون التي مرت عليها وتحتفظ بها في ذاكرتها.
الغريب أنني وجدت نفسي أمام المشهد ذاته بعد أن اخترقت بزورق سريع بحيرة تانا.. ثاني أكبر بحيرة طبيعية في إفريقيا.. خلال رحلتي إلي منابع النيل.. نفس الطيور والصخور والأعشاب ولون المياه.
إن النيل الذي ينبع من عيون الإثيوبيين يصب في قلوب المصريين.. وليست صدفة أن أخلاق الشعبين متشابهة.. وربما متطابقة.. طيبة إلي حد التفريط.. وخبث خفي إلي حد التضليل.. سلوك يتجنب العنف.. ويخشي السلطة.. وينافقها.. ويمشي في ركابها.. ويصلي وراءها.. دون أن يثق فيها.. أو يؤمن بها.. صفات مشتركة بين أمتين تختلفان في كل شيء ولا يجمعهما سوي النهر.
لم تكن أسوان في ذلك الوقت تعرف الغرباء.. فاختارت الحكومة سكنا لعائلتنا في ثكنات الجيش.. فلم تكن هناك بيوت للإيجار.. ولا فنادق للإقامة.. وأتاحت الفيللا الصغيرة، المبنية علي طريقة البواكي الإنجليزية عند أطراف المعسكر، أن نكون شهودا علي أحداث تاريخية لم أستوعبها بحكم صغر سني.. إلا فيما بعد.
ذات يوم وجدت طابور، طويلاً من عربات قطارات نقل البضائع تصل أسوان وعليها مدافع ومدرعات وسيارات عسكرية.. وراحت كتائب الجنود التي جاءت معها تثير انتباه المدنيين من عائلات المهندسين والفنيين العاملين في السد العالي.. ولم يكن من الصعب معرفة أن جمال عبد الناصر رفع درجة الاستعداد القصوي للحرب علي السودان التي هدد رئيس وزرائها إبراهيم عبود بأنه سيقف بكل قوة ضد بناء السد العالي.
فيما بعد قال لي أبي: إن جمال عبد الناصر كان جادا في الحرب ضد السودان.. ونقل عنه صدقي سليمان: \" إن الماء بالنسبة للمصريين مثل الدم يمكن الموت في سبيله.. كلاهما سر الحياة.
لكن.. سرعان ما خفت الأزمة.. وانتهت الشدة.. وعادت القوات إلي الشمال.. وجلس الطرفان علي مائدة مفاوضات انتهت بتوقيع \" اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه نهر النيل \" التي أبرمت بينهما في 8 نوفمبر 1959.. لتحقيق مصلحة مشتركة لهما دون انتقاص أو إجحاف بحقوقهما التاريخية المكتسبة.. ودون الإضرار بباقي دول حوض النيل السبع.. زائير.. رواندا.. بوروندي.. أوغندا.. كينيا.. تنزانيا.. إثيوبيا.
وحددت الاتفاقية حق مصر القائم في مياه النيل مقدراً عند أسوان بما يوازي 48 مليار متر مكعب قبل الحصول علي الحصة الزائدة التي يحققها السد العالي.. وحددت نصيب السودان بما مقداره 4 مليارات متر مكعب عند أسوان قبل الحصول علي حصتها من السد العالي.
ويحقق السد العالي 22 مليار متر مكعب للسودان منها 14 ملياراً ونصف المليار ليرتفع حقها في مياه النيل إلي 18 ملياراً ونصف المليار.. ونصيب مصر من مخزون السد العالي سبعة مليارات ونصف المليار ليرتفع حقها من مياه النيل إلي 55 ملياراً ونصف المليار.. وما زاد علي ذلك يوزع مناصفة بينهما.
ودفعت مصر تعويضات قدرت بنحو 15 مليون جنيه للسودان عن الأضرار التي لحقت بممتلكاتها نتيجة تخزين المياه في السد العالي عند منسوب 182 متراً.
هذه الاتفاقية توصف بالاحترام.. لكن.. السودان ما كان ليوقعها لو لم يشعر بقوة مصر العسكرية.. فلا أحد في العلاقات الدولية يبتسم لخصمه الضعيف.. وإلا كانت ابتسامة صفراء تعقبها عين حمراء.
لكن.. العلاقات الدولية تعترف بمبدأ \"الحقوق التاريخية المكتسبة\".. وتسمي أحيانا \"الحقوق الثابتة\".. وتسمي أحيانا أخري \"الحقوق القديمة\".. واحترام هذه الحقوق في توزيع مياه الأنهار الدولية التي يصل عددها إلي 215 نهرا من ألفي نهر في القارات الخمس يمثل التزاماً دولياً جري العمل عليه في حالات اقتسام المياه بين الدول المشتركة في النهر.
جاء في تقرير مقدم إلي لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي بشأن استخدام مياه الأنهار: \"إن الاستعمالات القائمة تتمتع بحماية فوق أي استعمالات محتملة\".. والاقتباس هنا من بحث للدكتور عبد الواحد الفار الذي يضيف: «إن غالبية الاتفاقيات الدولية التي أبرمت لتنظيم مياه الأنهار المشتركة تضمنت صراحة التأكيد علي احترام الحقوق التاريخية المكتسبة ومنها الاتفاقيات التي تنظم توزيع حصص نهر النيل علي الدول المشتركة في حوضه».
يأتي النيل المصري إلي بلادنا من منبعين.. الأول: البحيرات الاستوائية في أوغندا والكونغو.. بحيرات فيكتوريا وكيوجا وأدوارد وألبرت.. وتضخ 15 % عبر النيل الأبيض.. والثاني: المنابع الإثيوبية التي يأتي منها 85 % عبر النيل الأزرق.. ويلتقي النهران في الخرطوم ليتحدا.. ويتعانقا.. ويجريا معا في اتجاه أسوان. وقد رتبت الطبيعة الأمور حسب مزاجها الخاص.. وقسمت الجغرافيا العمل حسب واقعها.. الأمطار تهبط غزيرة علي دول المنبع التي تعتمد عليها في الزراعة.. بينما تصاب بالندرة في دولة المصب التي تعتمد علي مياه النهر في الزراعة.. ولخص الدكتور جمال حمدان ذلك كله في جملة بليغة: \"المطر للمنابع والري للمصب\".. \"الكهرباء لأوغندا وإثيوبيا والمياه لمصر\". وهناك حجم هائل من المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات التي تؤكد أن ما تحصل عليه مصر من مياه النيل هو أمر مفروغ منه طبقا لأصول وقواعد القانون الدولي.. وقد لخصها الدكتور عبد الواحد الفار في:
البروتوكول الموقع في روما عام 1891 بين بريطانيا وإيطاليا والذي كان يستهدف تعيين مناطق نفوذهما في شرق إفريقيا.. وتنص المادة الثالثة منه علي أن تتعهد إيطاليا بعدم إقامة منشآت لأغراض الري علي نهر عطبرة يكون من شأنها تعديل أو إعاقة تدفق مياه النيل علي نحو محسوس.
مجموعة المعاهدات التي وقعت يوم 15 مايو 1902 في أديس أبابا بين بريطانيا وإثيوبيا وبين بريطانيا وإيطاليا بخصوص رسم الحدود بين السودان الإنجليزي المصري وإثيوبيا وإريتريا.. ونصت المادة الثالثة من الاتفاق الأول بشأن الحدود بين إثيوبيا والسودان علي أن يتعهد الإمبراطور ميلينك الثاني ملك الحبشة بألا يسمح بإصدار أي تعليمات للقيام بأي أعمال علي النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يمكن أن تتسبب في إعاقة تدفق مياه أي منها إلي النيل ما لم توافق علي ذلك مسبقا الحكومة البريطانية وحكومة السودان المسئولة عنها مصر.. وتكرر النص ذاته في المادة الثالثة من الاتفاق الثاني الخاص بالحدود بين السودان الإنجليزي المصري وإثيوبيا وإريتريا.
المذكرات التي جري تبادلها سنة 1935 بين بريطانيا وإيطاليا بصفتها نائبة عن إثيوبيا وقتها تعترف فيها الحكومة الإيطالية بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان في مياه النيل الأبيض والنيل الأزرق.. وتتعهد إيطاليا نيابة عن إثيوبيا أيضا بعدم إقامة أية منشآت في أعالي النيل علي هذين الفرعين أو روافدهما يكون من شأنها التعديل أو المساس بكمية المياه التي تتدفق في المجري الرئيسي بصورة محسوسة.
وفي تلك المذكرات تتعهد الحكومة الإيطالية أيضا بالعمل قدر المستطاع بما يتفق والمصالح العليا لمصر والسودان وأن تكون المشروعات التي تقام محققة بدرجة مناسبة للاحتياجات الاقتصادية لشعبيهما.
مجموعة الاتفاقيات التي تلتزم بها دول منابع النيل الاستوائية وتتمثل في الوثائق التالية:
الاتفاق الموقع بين بريطانيا والكونغو في 19 مايو 1906 في لندن والمعدل باتفاقية بروكسل المبرمة في 12 مايو 1894.. وتنص المادة الثالثة منه علي التزام حكومة الكونغو بألا تنشئ أو تسمح بإقامة أي منشآت علي نهر السمليكي أو نهر الاسانجو يكون من شأنها التخفيض أو المساس بكمية المياه التي تصب في بحيرة البرت إلا بموافقة حكومة السودان المصري البريطاني.
الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في 13 ديسمبر 1906 في لندن تنص مادته الرابعة علي الحفاظ علي مصالح مصر وبريطانيا في حوض النيل وبصفة خاصة التحكم في مياه النيل وروافده مع الأخذ في الاعتبار المصالح المحلية للدول التي يمر فيها النهر.
الاتفاقية المبرمة بين مصر وبريطانيا في 7 مايو 1929 والتي نابت فيها بريطانيا عن السودان وكينيا وتنجانيقا (تنزانيا) وأوغندا تقضي بحظر إقامة أي مشروع من أي نوع علي نهر النيل وروافده أو علي البحيرات التي تغذيه.. إلا بموافقة مصر.. وعلي وجه الخصوص في حالة ما إذا كانت هذه المشروعات ذات صلة بالري أو بتوليد الكهرباء.. أو إذا كانت تؤثر علي كمية المياه التي كانت تحصل عليها مصر.. أو علي تواريخ وصول المياه إليها.. أو إذا كانت تضر بمصالح مصر من أية ناحية.. وتمنح هذه الاتفاقية لمصر حق الرقابة علي طول مجري النهر من منبعه إلي مصبه.
كان سر هذه الاتفاقية رغبة السودان في زراعة أرض الجزيرة بعد انتهاء العمل في سد سنار عام 1925.. لكن.. ذلك لم يمنع أن الاتفاقية اهتمت في المقام الأول بتثبيت حقوق مصر المكتسبة في مياه النيل.
الاتفاق الموقع في 23 نوفمبر 1934 بين بريطانيا (نيابة عن تنجانيقا أو تنزانيا الآن) وبين بلجيكا (نيابة عن رواندا وبوروندي) وهو اتفاق خاص بنهر كاجيرا باعتباره أحد روافد بحيرة فيكتوريا.. ونصت المادة الأولي منه علي تعهد من الطرفين بأن يعيدا إلي نهر كاجيرا، قبل وصوله إلي الحدود المشتركة بين تلك الدول أية كميات من المياه تكون قد سحبت منه قبل ذلك لغرض توليد الكهرباء.. مما يعني أن الاتفاقية سمحت بتوليد الكهرباء علي أن تعاد ما يفقد من مياه إلي بقية دول الحوض بما فيها مصر.
أعرف أن الكلام أصبح ثقيل الظل.. اتفاقيات ومعاهدات وملفات قديمة تسبب الصداع.. لكن.. لا مفر من التحمل هذه المرة.. فقضية المياه قضية حياة أو موت.. لا يجوز أن ننصرف عنها وإلا متنا من العطش والجوع وأكلنا لحم بعضنا البعض.
لقد استمرت الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل مدعمة بأطنان من المستندات الرسمية الدولية.. لكن.. في السنوات الأخيرة بدأ تمرد بعض دول المنبع مطالبة بتوقيع اتفاقية جديدة يجري بمقتضاها إعادة توزيع حصص دول الحوض من المياه.. وفي الصدارة كانت إثيوبيا وأوغندا.. وهما الدولتان الأهم بالنسبة لمصر.. وكانت حجتهما أن الاتفاقيات القديمة وقعتها الدول المتمردة وهي تحت الاحتلال الأجنبي.. وهي حجة لا يؤخذ بها في القوانين والأعراف الدولية.. كما أن تلك الدول تحررت منذ عشرات السنين فلماذا لم تبرز هذه الحجة إلا مؤخرا؟
والحقيقة أن هناك قوي دولية تلعب وتحرض وتستعدي كي تشارك دول الحوض في المياه.. إما بطريقة مباشرة.. تشتري منها المياه.. أو بطريقة غير مباشرة.. تزرع علي أرضها.
ولابد من الاعتراف بأن تلك الدول لم يعد لها مصالح مباشرة مع مصر التي أهملتها ونبذتها وأعطتها ظهرها متنكرة لجذورها الإفريقية السمراء متطلعة إلي أوروبا الشقراء التي لن تقبل بأمثالنا ولو أنرنا أصابعنا العشر شمعاً لها.
لقد كانت مصر في سنوات حكم عبد الناصر تسيطر علي إفريقيا سيطرة سياسية ومائية وتعليمية واقتصادية.. لكنها انقلبت عليها أيام أنور السادات الذي جند البلاد ضد الشيوعية ولو علي حساب المصالح الاستراتيجية.. وفي حالة النسيان، التي وجدنا أنفسنا فيها الآن، لم يعد أمامنا، للسيطرة علي دول حوض النيل، سوي شراء الذمم الرسمية بحقائب دولارات تذهب إلي وزراء ورؤساء يبقون الأوضاع علي ما هي عليه إلي حين إرسال حقيبة دولارات جديدة.. لكن.. مادامت السياسة يصنعها الفساد فإنها ستكون في خدمة من يدفع أكثر.. وهذا بالضبط ما سمعته من مسئولين ومثقفين إثيوبيين خلال رحلتي الأولي من نوعها إلي منابع النيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.