صدي نهجان تربويان نهجان تربويان اصطرعا ،ويصطرعان منذ العام 1992م دون اعلان حرب وقعقعة سلاح او صرير اقلام، حتى صرع الجديد فيهما سلطوياً ما كان يمكن ان يسود. لكن ما هو «النهج»؟أهو المنهج؟ لا يا سيدي: فاذا كان النهج محدوداً في المادة التعليمية المقررة على المتعلم في فترة زمنية محددة وفي الاعتبار فئته العمرية، فان النهج اشمل من ذلك. النهج الذي يشمل المنهج وطرق التدريس والنظام المدرسي وكيفية التقويم والمناشط التربوية وكل ما يمت بصلة للعملية التعليمية. إذن فهما نهجان يسيران في خطين متوازيين: نهج التعلم ، ونهج التعليم: وما الفرق في نهج التعلم نجد المتعلم مشاركا ايجابياً في العملية التعليمية، بينما نجده في نهج التعليم متلقياً سلبياً. يسيطر المتعلمون على الحصة في نهج التعلم ويبثون فيها حيويتهم، بينما تكون السيطرة للمعلم في نهج التعليم يصول ويجول ويملي ما يريد. هما نهجان تربويان: الاول شعاره «تعلمهم كيف يتعلمون»، والثاني: «نؤدبهم ليجلسوا مستمعين فنملي عليهم ما نريد» في البيئة التعليمية لنهج التعلم الحركة والنشاط وسمة بيئة التعليم الهدوء متعلم نهج التعلم مندفع متسائل متطلع لا يقتنع بسهولة. ومتعلم بيئة التعليم مستسلم قانع سهل القياد. معلم نهج التعلم مجرد ميسر، لا يتدخل الا بالقدر الذي يساعد المتعلم على تناول المعرفة بنفسه، تميزه قوة شخصيته وسعة أفقه واطلاعه وسرعة بديهته، ويا ويله ان كان دون ذلك مع نوعية المتعلم السابق ذكره، معلم نهج التعليم قابض مسيطر، هو الكل،في تميزه في الصوت الجهور والحزم مع الحفظ، في نهج التعلم نختبر المقدرة على الخلق والابداع عند التقويم، وفي نهج التعليم يتجه اختبارنا الى الذاكرة. هذا ويمكن اعادة تسمية النهجين بنهج «الابداع» ونهج «الذاكرة». إذن ففي نهج الابداع نملك المتعلم الصنارة والخيط ونعلمه كيف يصطاد السمك بنفسه، وفي نهج الذاكرة نطعمه السمك المطبوخ. قبل ما يزيد على نصف القرن تخرجنا في المدارس الوسطى حسب نظام السلم التعليمي الاقدم. «أربع سنوات للمرحلة الاولية، أربع للوسطى، أربع للثانوي» في هذه المرحلة قابلتنا ولاول مرة مادة اللغة الانجليزية، تخرجنا ونحن نستطيع استخدام قاموس وست West وهو قاموس انجليزي/انجليزي، وليس انجليزي/عربي، فاستعمال الترجمة ممنوع في المنهج حتى يتمكن الدارس من الامساك بتلابيب اللغة، تخرجنا وحصيلتنا «0051» «ألف وخمسمائة» كلمة اساسية يمكن استعمالها لمعرفة 0018 «ثمانية عشر ألف» كلمة وستة آلاف جملة مجازية في ذلك القاموس. تخرجنا وفي حصيلة كل منا الاطلاع على خمسة وعشرين كتاب مكتبة بدأ منذ النصف الثاني متدرجا من الابسط الى البسيط الى الذي يكاد يكون نصا اصلياً، امتحنا في ثلاثة كتب كأدب انجليزي «وأنا أفرق بين مادة الادب والمكتبة المدرسية بالادب هو الدراسة الجماعية في الفصل، بينما المكتبة للاطلاع الفردي». اعددنا لنتلقي دروسنا باللغة الانجليزية في جميع المواد بالمدرسة الثانوية «ما عدا اللغة العربية والتربية الاسلامية بالطبع». بل لنقرأ النصوص الاصلية دون تبسيط حتى شكسبير. يقيني ان من توقف تعليمه في المرحلة الوسطى حينها كان يمكنه ان يطلع على النصوص الاصلية ويواصل منمياً مقدراته اللغوية، فقد امتلك الصنارة والخيط «القاموس»، واكسبته المكتبة ثقة في النفس. والثقة في النفس لا تغرسها المكتبة المدرسية فقط، تغرسها معامل العلوم التي يجري فيها التلاميذ التجارب بانفسهم ليصلوا الى النتائج، تغرسها حصص الاعمال اليدوية والفنون التي تعود التلميذ الخلق والابتكار، تغرسها حصص الانشاء باللغتين العربية والاتجليزية، وفوق هذا وذاك المعلم واسع الصدر المتفهم لدوره الذي يشجع النقاش ولا يكبته: «لم اقل ان نهج الابداع كان سائداً مائة في المائة قبل 1992، وانما قلت كان يمكن ان يسود، فنهج الابداع يراجع نفسه، ويصحح اخطاءه، ويطور نفسه، ولا يقنع بما وصل اليه أبداً، وهذه هي ديناميكيته وعبقريته، ولكن الذي ساد مائة في المائة بعد 1992م فهو نهج الذاكرة، نهج الاملاء نهج التكرار والاجترار. عمد اول ما عمد الى الاشلال اللغوي، ولا اظنني في حاجة الى كبير جهد للبرهان على ذلك. فخريج الجامعة لا يستطيع قراءة كتاب مبسط باللغة الانجليزية قصد به اساساً تلاميذ المرحلة المتوسطة. مع تنامي الحاجة الى هذه اللغة الاولى في العالم الذي اضحى غرفة وليس قرية كما يقولون. فانت في غرفتك وبالضغط على زر تتواصل مع جميع ارجائه. ليست اللغة الانجليزية فقط، وانما العربية ايضا اصابها ما اصاب تلك من ضعف وهزال، كيف لا وكيف يطور الدارس نفسه لغوياً وقد سحبت منه المكتبة المدرسية، وتقلصت دروس الادب، بل لاحظ احدهم غياب السرد في مناهج اللغة العربية، أضف الى ذلك إنطفاء الشعلة التي أوقدت في بخت الرضا منذ عام 6491م ثم انتقلت الى الخرطوم، أعني مكتب النشر واصداراته من كتيبات ومجلات: الصبيان ثم الجيل وهدهد. ها نحن ننتج خريجي مدارس وجامعات مشلولين لغوياً، واللغة أهم وسيلة لتناول المعرفة، مشلولي الارادة والثقة بالنفس، محنيي الظهر للتلقي، انهم ارض خصبة لأردأ انواع الاعلام، يتلاعب بهم كيف يشاء، فازاء الاعلام نحن امام نهجين تربويين: نهج ينتج من يناقش المعلومة ويحللها ولا يقتنع بها كما جاءت، ونهج ينتج من يقبلها كما تلقاها، نهج ينتج من يسيطر على الاعلام، ونهج ينتج من يتسيطر عليه الاعلام، فمن اراد التنمية البشرية فعليه بالنهج الاول، ومن اراد ان يسوم «رعيته» عليه بالنهج الثاني. عبد القادر محمد ابراهيم الصحافة