النظام العام .. (2) منى أبو زيد (الغموض المقصود والمرونة الغائبة ..!) النظام العام – مطلقاً وليس عندنا فقط – قانون (غامض) .. وهو كما أرسى فقهاء القانون .. غموض متعمد يترك باب التقدير موارباً للسلطات المعنية في تقدير حجم (الضرر) وبالتالي مقدار (التدخل) .. وعليه فهو غموض ينتهج المرونة والنسبية في تقدير مصلحة المجتمع .. ذلك الغموض يصبغ تعريف قانون النظام عند معظم فقهاء القانون من عبد الرازق السنهوري الذي عرّف قانون النظام العام في كتابه مصادر الحق بأنه (قانون متغير يضيق ويتسع حسب ما يراه الناس في حضارة معينة مصلحة عامة) .. إلى كريستوف فييرا الذي عرّفه في بحثه عن النظام العام في فقه قضاء المجلس الدستوري ب (المبدأ الغامض الذي يختلف باختلاف الوقائع والظروف والأوضاع الاجتماعية) ..! على مر العصور الإسلامية لم يكن ملبس المسلم موضوع جريمة أو محل عقوبة جنائية .. بينما في المادة (152) من القانون الجنائي السوداني تم إقحام مصطلح (الزي الفاضح) – وهو مصطلح فضفاض وغامض ولم يتم تحديد معاييره حتى اليوم! - ضمن الأفعال الفاضحة التي يعاقب عليها ب (الجلد) أو (الغرامة) أو الاثنين معاً ..! بينما حتى في السعودية حيث أرض الحرمين – نفسها – وحيث لا خلاف يذكر حول مفهوم الزي المحتشم .. وحيث أكبر تصنيف إثني لا يتجاوز مصطلح (القبيلي) و(الخضيري) .. وحيث أكبر اختلاف ديني يمكن أن يثور لا يتجاوز (السنة) و(الشيعة) تعتبر شؤون الزي والسلوكيات الاجتماعية العامة من اختصاص (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) – وهي مرادف شرطة النظام العام عندنا – ضمن إطار الرقابة الرسمية وليس العقوبة القانونية على جريمة جنائية مكتملة الأركان ..! وعندما علا سقف تجاوزات تلك الهيئة - بسبب الغلو في تقديرات بعض منتسبيها المنتمين إلى التيار الديني المتشدد – بادرت السلطة السياسية في السعودية بتحجيم دورها كجهاز رقابي على سلوكيات المجتمع .. تحجيم دور الرقابة والعقاب على السلوكيات العامة التي تتقاطع مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – في السعودية - أتى متزامناً مع موقف الغرب العدائي مع مظاهر التطرف الديني في البلاد الإسلامية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر .. هنا يجدر الحديث عن خطورة دور الحكومة في تجحيم تجاوزات تطبيق قانون (النظام العام) من زاوية حسن التصرف كسياسة داخلية .. وحسن التخلص كسياسة خارجية .. في وقت باتت فيه تجاوزات السلطة الداخلية في دول العالم الثالث مجلبة ل (شيل الحال) العالمي الذي تعقبه سلسلة سياسات عقابية معنوية ومادية تحل لعنتها على الشعوب المقموعة قبل الحكومات القامعة ..! في عز أيام تصعيدات قضية بنطال الأستاذة لبنى .. تم توقيف شابتين سعوديتين ثبت تورطهما في قضية برنامج شهير اتهم ضيفه ب (المجاهرة بالمعصية) وهي في نصوص القانون جريمة لا سيقان لها وتدخل في قبيل تجاوزات الشباب المتهمين في حادثة (عرض الأزياء) .. فكيف تعاملت الحكومة السعودية مع الأمر ؟! .. صدر قرار ملكي بإسقاط جميع التهم عن الفتاتين وبالتالي بتعطيل تطبيق حكم الجلد الصادر بحقهما ..! كانت لفتة حكومية حكيمة جنّبت البلاد والعباد تبعات نشر الغسيل المحلي - المحفوف بإشكالات العرف والعادات والتقاليد - في الفضائيات العالمية .. والأهم أنها أبرزت لجيل الشباب المتهمين بخرق قوانين النظام العام (وجوه الخير في بلادهم) .. وهكذا أطفأ حسن التصرف الحكومي تجاوزات تطبيق النظام العام .. فدفع بذلك بلاء التصعيد الإعلامي قبل وقوعه .. أما نحن فلا نتقن فن إطفاء الحرائق .. ولا نجيد الانحناء لعواصف التصعيد الإعلامي ..! التيار