بقلم : حامد إبراهيم حامد (كاتب من أسرة الراية) . .تعزز الحفاوة الرسمية التي استقبل بها الرئيس السوداني عمر حسن البشير في تشاد انفراجا جديدا في العلاقات بين الخصمين السابقين وتطورا إيجابيا يؤكد انهما ربما في الطريق لطي صفحة الماضي المؤلم في هذه العلاقات والتي ظلت محل شد وجذب منذ اندلاع أزمة دارفور قبل سبع سنوات بسبب تأثر تشاد بها. ورغم أن الزيارة التي قام بها البشير لتشاد في هذا التوقيت تشكل تحديا جريئا لاتهام المحكمة الجنائية الدولية له بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب بدارفور باعتبار أن البشير زار لأول مرة دولة موقعة على ميثاقها إلا أن واقع العلاقات بين البلدين يتطلب أن ينظر إلى الزيارة بمنظار آخر غير منظار الجنائية الدولية ومصداقيتها، فاستقبال تشاد للبشير يندرج أساسا في واقع هذه العلاقات والتي تتغير وفقا لموقف العاصمتين من التمرد في البلد الآخر. وإن العاصمتين تعاملتا بمنظار واقعي جديد مع التمرد لصالح هذه العلاقات. فالبشير لم يذهب إلى تشاد إلا بعد أن ضمن موقف حكومة الرئيس ادريس ديبي الذي كان قد بادر ومد اليد البيضاء برفع المنديل الأبيض منديل السلام في اللقاء الشهير الذي جمع بين وفدي الحكومتين إبان زيارته الأولى للخرطوم لتطبيع العلاقات والتي أصبحت هي المعيار في تعامل تشاد مع البشير ورفضها الخضوع للجنائية الدولية التي طالبتها باعتقاله إبان مشاركته بقمة الساحل والصحراء. فمن الواضح أن الطرفين السوداني والتشادي استغلا الغطاء الإفريقي الرافض للجنائية في التعامل مع قضية البشير، والدولي المتراخي في التعامل مع القضية ، فالخرطوم أرادت بزيارة البشير أن ترسل رسالة للعالم وللجنائية الدولية أنها لا تضع الاعتبار للمطالبات التي تصدر من المحكمة أو الدول المؤيدة لها، وأنها رتبت أمورها وتتعامل خارجيا وفقا للموقف الإفريقي والعربي الرافض للجنائية فيما أن حكومة الرئيس ديبي أرادت أن تبرهن للخرطوم أنها صادقة في طي صفحة الماضي وان طردها لزعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم من الأراضي التشادية حقيقة وليست مناورة سياسية مرحلية، وبالتالي غامرت واستقبلت البشير ولم تنتظر لعواقب قرارها لأنها تدرك تماما أن الدول النافذة لا تريد تعكير الوضع السوداني حاليا بقضية الجنائية في حين أنها تطالب الخرطوم باستحقاقات أخرى متعددة خاصة بجنوب السودان التي يتطلع لها المجتمع الدولي كدولة جديدة بعد أقل من ستة أشهر. لقد استفاد الطرفان السوداني والتشادي من الواقع الدولي والمحيط الإقليمي ونفذا أمرا قد يبدو صعبا قبل تطبيع العلاقات بينهما خاصة وان تشاد كانت قد هددت باعتقال البشير إذا ما عبر أجواءها أيام انفجار أزمة العلاقات بينهما، فالواقع الدولي الحالي لا يريد اندلاع أزمة جديدة في السودان، قبل حل قضية انفصال الجنوب والذي رتبت له دوائر غربية كبرى، وحتى أزمة دارفور تراجعت إلى الخلف وأصبحت تحتل المرتبة الثانية بعد الجنوب وأصبح الجميع منشغلين بتفاصيل الاستفتاء أو قيام دولة الجنوب المرتقبة وان الضغط على الخرطوم بخصوص الجنائية أو اعتقال البشير يعني العودة للمربع الأول مربع الحرب الشاملة ليس بدارفور فقط وإنما بالجنوب والمناطق المتاخمة لحدوده، أما الواقع الإقليمي عربيا أو إفريقيا، فهو معروف ورافض للجنائية وتشاد عندما تصرفت وقررت استقبال البشير رغم أنها موقعة على ميثاق المحكمة ورغم صدور قرار إدانة البشير بالإبادة تدرك أن الواقع الإقليمي عربيا وإفريقيا أو حتى في إطار تجمع (س-ص) معها باعتبار أن جميع هذه المنظمات الإقليمية قد رفضت المحكمة وقررت عدم التعامل معها وتركت لدولها اتخاذ مواقف فردية وفقا لقوانينها وعلاقاتها الخارجية. المعروف أن المزاج الدولي في أعلى مستوياته رافض لأي توتر جديد مع السودان، فحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي طالبت من خلال تصريحات الناطق الرسمي باسم خارجتيها تشاد بالتعاون مع الجنائية الدولية أعلنت صراحة في أكثر من مناسبة أن الوقت ليس ملائما لإصدار قرار جديد بحق البشير وان المرحلة الحالية تتطلب التهدئة من أجل استحقاق أهم وهو حل معضلة دولة الجنوب القادمة ولذلك فإن تشاد والسودان وجدا معا فرصة مناسبة لاختبار الجنائية من خلال زيارة البشير التي اعتبرتها الخرطوم تحديا لمصداقية الجنائية واعتبرتها تشاد زيارة عادية تندرج في إطار مشاركة زعيم دولة إفريقية في قمة إقليمية مرتبة لها سلفا. فرفض تشاد اعتقال البشير لا يجب النظر إليه بمنظر انه يشكل ضربة جديدة لمصداقية المحكمة الجنائية الدولية كما تقول الخرطوم المنتشية بالانتصار الجديد في كسر حاجز الخوف من اعتقال البشير، فموقف نجامينا مرحلي ومقرون بمدى التطور الإيجابي في علاقاتها مع الخرطوم وهي علاقات تطور إيجابا وسلبا وفقا لمقتضى الحال في الحدود وطموحات المعارضين لحكومة الرئيس ديبي أو طموحات متمردي دارفور، وهذا يعني أن هناك استحقاقات واضحة وجديدة تتطلب أن تقوم بها الخرطوم، فطرد ثلاثة من كبار قادة المعارضة التشادية ما هو إلا البداية خاصة وان تشاد تدرك تماما مدى تغلغل وتشعب علاقات الخرطوم مع المعارضين لها. فطرد هؤلاء الثلاثة يعني أيضا اعترافا صريحا من الخرطوم بوجود معارضة تشادية سياسية ومسلحة في الأراضي السودانية وأن تأكيد البشير منع هذه المعارضة من العمل المسلح يتطلب تفعيلاً على الأرض مثلما فعلت تشاد بطرد خليل من أراضيها، فالقضية أكبر من مجرد إنشاء قوات مشتركة لمراقبة الحدود، فهناك مساحات شاسعة من الأراضي لا تسيطر عليها هذه القوات ولا قوات الحكومتين وهي تعرف محليا بالأراضي المحررة التي تسيطر عليها قوات التمرد سواء كانت سودانية أو تشادية. فالحكومتان السودانية والتشادية ليس أمامها إلا تطبيع العلاقات وحل خلافاتهما بعدما فشلتا في الحسم العسكري ضد المتمردين عليهما في حرب بالوكالة عنهما، ولذلك فوجودهما معا يتطلب التعاون من أجل المصلحة المشتركة وهذا يعني تقديم المزيد من التضحية، فتشاد طردت خليل ومدت راية السلام البيضاء ومضت اكثر حينما حاربت المجتمع الدولي واستقبلت البشير، والخرطوم من جانبها لم تجد إلا التضحية بالمعارضة التشادية وطرد قادتها. وهذا الواقع يعني أن الطرفين في حاجة الى بعضهما البعض لمواجهة العدو المشترك سواء كانت الجنائية الدولية أو التمرد، فهما يدركان أهمية الحفاظ على الهدوء النسبي في حدودهما المشتركة وان اعتقال البشير أو التعرض له أو حتى منعه من الحضور إلى تشاد يعني عودة التوتر وعدم الثقة في العلاقات بينهما وتعريض الحدود المشتركة التي شهدت هدوءا نسبيا لخطر من جديد. إذا هناك حاجة مشتركة دفعت تشاد والسودان لتحدي الجنائية الدولية علنا وتعزيز علاقاتهما التي كانت مضطربة، فالبشير عاد للخرطوم «آمنا سالما» وتشاد استفادت من زيارته بطرد ألد أعداء رئيسها ديبي ولكن خطورة الواقع الجديد ليس في تحدي الجنائية وإنما في إمكانية أن تتحد المعارضة التشادية والسودانية للعمل معا ضد العاصمتين خاصة وأنها تتكون في أغلبها من اثنيات مشتركة ولها مصالح وعلاقات أسرية. فالمرحلة القادمة هي الأخطر، وتشكل تحديا في التزام البشير وديبي بتعهداتهما، فهما يواجهان مواقف هشة ومتقلبة يتحكم فيها لاعبون كثر محليا، وإقليميا ودوليا، فمحليا، المعارضة المسلحة في البلدين قد تتطور وتتحالف معا، لمواجهة التضييق المفروض عليهما من الطرفين، وإقليميا هناك دول نافذة أعلنت موقفها المؤيد للجنائية الدولية، فتشاد قد تتعرض هي نفسها لعقوبات بشكل من الأشكال. فالرئيس ديبي قدم السبت وهو ينتظر الأحد من نظيره البشير، فتحدي الجنائية علنا يجعله في مرمى حجر ليس المعارضة التي يقودها محمد نوري وقربيه تيمان ارديمي وإنما فرنسا التي حالت دون سقوط حكومته عندما اجتاحت قوات المعارضة عاصمته التي قالت نجامنيا :إنها مدعومة من الخرطوم قبل ثلاثة أعوام، خاصة وان ديبي يعول على الفوز هو وحلفاؤه في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي ستجرى هذا العام والعام المقبل. فالمصلحة المشتركة للزعيمين هزمت الجنائية، فكلا الطرفين السوداني والتشادي وضح أنهما يرغبان في أن يظلا على وفاق ومن مصلحتهما أن يفعلا ذلك. وإنهما وجدا الفرصة مواتية خاصة مع توقيت صدور قرار إدانة البشير بجرائم الإبادة الجماعية، فالمجتمع الدولي رغم حرصه على ضرورة تنفيذ قرار الجنائية التي ليس لها شرطة لتنفيذ اعتقال أي مطالب أيا كان وضعه ناهيك عن رئيس دولة يتمتع بحصانة، متحفظ على تنفيذ الاعتقال أو اتخاذ أي إجراء ليس ضد البشير فحسب وإنما حتى ضد الوزير أحمد هارون والقائد الجنجويدي المختفي قسرا على كوشيب لأن الجميع لايريدون فشل تطورات الجهود الدولية لدعم عملية السلام. وهي جهود مقصود بها قيام دولة جنوب السودان وأن المجتمع الدولي يحتاج للبشير بشدة في تنفيذها. الراية القطرية