فلاش باك - الوطن في انتظار جودو (1) تيسير حسن إدريس [email protected] المتأمل لموقف الشارع السوداني عقب الانقلاب العسكري للجبهة القومية الإسلامية أو ما عرف (بثورة الإنقاذ) في 30 يونيو 1989م أي قبل أكثر من عقدين من الزمان يلاحظ البرود في ردة الفعل الشعبي واللا مبالاة التي لفت الجماهير واستقبل بها الشارع السوداني هذا التغيير الدراماتيكي إذا ما استثنينا بالطبع المطلعين علي الأمر من كوادر الحركة الإسلامية وهؤلاء كانوا قلة حينذاك. ومرد هذا البرود واللا مبالاة في اعتقادنا يرجع للحالة النفسية التي سيطرت على الشعب السوداني في ذلك الزمان فهو من جهة قد مل الممارسة السياسية العقيمة للأحزاب التي تراكمت عليها العلل وأضحت لا تقوى علي الفعل السياسي الراشد فهي فاقدة للبوصلة تمارس الدوران حول نفسها و حول قضايا الوطن الملحة عاجزة عن تقديم حلول مقنعة رغم إن مشاكل الوطن واضحة وغير مستعصية علي الحل أذا ما صدقت النوايا إلا أن سياسة تقديم قدم وتأخير أخرى و غلوتية (خطوة إلي الأمام خطوتين إلي الخلف) ظلت تحكم نهج الساسة الكرام ، فهم مترددون حد الإحجام عن طرح المبادرات الشجاعة مستنكفين عن نيل اجر المحاولة و شرف السبق ولعل مرد ذلك يرجع للتركيبة النفسية لإنسان السودان المصاب بمرض (الرهاب) من كل جديد والأسير لأغلال التعود يكره المبادرة خجلا أو تواضعا و يرهب التغيير ويستغرب الطفرات والتحديث فلا يزال العقل الجمعي لمجتمعنا يحبذ زواج الأقارب ليتجنب مخاطر التجربة ويقلل من نسبة الفشل كذا نجد الفرد منا يتمسك بالمسكن الأول والمدينة الأولى التي نشأ وترعرع فيها بشكل عجيب فوق ما اعتادته الشعوب الأخرى لذلك شاع في تراثنا الشعبي الأمثال من نوع (جن تعرفه و لا جن يكلكلك) و(ألفات قديمه تاه) فالكل يخاف التو هان و لا يحمل الكلكلة. ومن جهة أخرى نجد أن ذاكرة الشعب مازالت مشبعة بمآسي ومرارات النظام العسكري السابق (نظام مايو) و ممارساته القمعية ومشاعر البغض لصنوف التضييق وكبت الحريات التي مارسها مازالت طازجة وحاضرة تحتل وجدانه. ونتيجة لهذه الحالة من الصراع النفسي حارت القلوب بين حالين أحلاهما مر فمن جهة هي كارهة لضعف الحكم المدني الديمقراطي وعجز الأحزاب الواضح وعدم التزامها بتنفيذ ما وعدت به في خطابها الانتخابي ومن ناحية أخرى مصابة (بفوبيا) الأنظمة العسكرية التي خبرت شرها وتجرعت الذل و الهوان في عهودها الماضية ( نظام الفريق عبود و نظام المشير نميري) أضف إلي ذلك عجز هذه النظم العسكرية و تخبطها وعدم مقدرها على إنجاز البرامج والوعود الوردية التي عادة ما يحفل بها البيان الانقلابي رقم واحد. تحت وطأة هذا الانقسام الوجداني و حالة الإرباك النفسي مابين السيئ و الأكثر سوء ركنت الجماهير إلي حائط مبكاها تندب حظها العاثر مترعة بالإحباط والأحزان موغلة في صحراء الحيرة بلا هدى ومنصرفة عن هؤلاء القادمين الجدد لسدة الحكم وأولئك المدبرون عن سدته... وانكفأت علي ذاتها تبحث في جد ومثابرة عن الحلول الفردية الممكنة ضاربة بإرث التكافل الاجتماعي و روابط الأسرة الممتدة ومنظومة القيم الاجتماعية السودانية السمحة عرض الحائط. اختارت مجموعات مقدرة من أبناء شعبنا الغربة حلا و وطنا و مستقرا والمنافي بنوعيها الجغرافي والمعنوي مهربا و كلاهما مر وعلقم فقد ينفي الشخص نفسه داخل ذاته هروبا من الواقع و تعقيداته و يغرق في بحر من الظلمات يقوده إلي الإدمان أو المرض النفسي أو يختار الموت السريع انتحارا حل لمشاكل دنياه غير عابئ أو مكترث بآخرته ، أو يختار المنفى الجغرافي وينقطع عن الأصل و يغرس في تربة غريبة يحرم فيها من حزام الأمان القيمي و الأخلاقي الذي يقي من الضياع أو الاستلاب علي أقل تقدير....... أنها بحق حياة المضطر الذي ركب الصعب (فالقمح مر في حقول الآخرين و الماء مالح). أما حال الأغلبية العظمى من الشعب والتي لم تجد إلي الهرب سبيلا واستطاعت إن تتلقى الضربة الأولى و تمتصها متحاملة علي ذاتها طوال الأشهر الأولى من عمر انقلاب الإنقاذ بعامل السند المعنوي الذي تمثل في وجود قيادات أحزابها التاريخية بقربها رغم محنة الاعتقالات غدت بعد حين تلحظ في اندهاش و عجب تسرب تلك القيادات بدواعي شتى للخارج مولين الدبر تاركين الجمل بما حمل يلهث ويئن تحت وطأة نظام لم يراع في أهله و شعبه ذمة و لا دين. لقد كان حري بقيادات الأحزاب البقاء وسط جماهيرها وتوفير السند المعنوي والنفسي وحشدها و رص صفوفها لمواجهة القادم المجهول بدلا عن الهرب إلي الخارج والاستجارة برمضاء المنافئ وإطلاق الحناجر في زعيق أجوف تتقاذفه الريح بعيدا عن آذان فقراء ومعدمي البلاد الذين أصمهم العوز و الفقر وأدمى قلوبهم ظلم ذوي القربى والغريب في الأمر إن بعض من هؤلاء القيادات أطلقت تصريحات صحفية عجيبة قبيل مغادرتها للوطن يفهم منها المباركة لما تم من انقلاب و خرق للشرعية و الدستور وكان الأمر لا يعنيها في شيء. واجتمع سامر القوم في المنفى مكونين (التجمع الوطني الديمقراطي) كتحالف معارض لنظام الإنقاذ ومنه أطلقوا لحناجرهم العنان لتوهم جماهير الشعب السوداني بأن أيام نظام الإنقاذ معدودة و إنه إلي زوال قريب حالمين بالعودة المظفرة للبلاد علي صهوة خيل (الحركة الشعبية لتحرير السودان) الفصيل الجنوبي الذي يحارب منذ عام 1983م من أجل قضايا شعب الجنوب العادلة متوهمين أن الحركة الشعبية لتحرير السودان سوف تحارب حربهم ومن ثم تقدم لهم مفاتيح الخرطوم علي طبق من ذهب ليدخلوها بسلام أمنين مكللين بالغار . لقد غاب عن ذاكرة زعماء الأمة أو زين لهم ضعف حيلتهم إن يتناسوا حكم و أمثال توارثوها من السلف تقول (ما حك جلدك مثل ظفرك و صاحب الحاجة بركب الصعب) وعلى العكس تماما ركب قادتنا الكرام السهل الممتنع و تعذر عليهم بناء قوات عسكرية محاربة ذات شأن و تأثير الشيء الذي جعل موقفهم ضعيف وأمرهم هين أمام عدو الأمس و حليف اليوم (الحركة الشعبية لتحرير السودان) . فهانوا و سهل الهوان عليهم مما وفر الأجواء للحركة الشعبية الفصيل القوي أن (تبيض و تصفر) فارضة إرادتها السياسية عليهم ولا مفر أمامهم سوى البصم بالعشرة علي جميع مطالبها والتي أوصلتنا في مؤتمر (أسمرا للقضايا المصيرية) المنعقد باريتريا عام 1995م إلي الموافقة و بالإجماع (ألسكوتي) علي حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. لن يستطيع كائن من كان أن يقنع الشعب السوداني بأن قرار منح حق تقرير المصير لشعب الجنوب الذي أكدت جميع الاستطلاعات بأنه سوف يقود إلي الانفصال كان من صنع نظام الإنقاذ وحده مع التأكيد علي أنهم كانوا السباقين لذلك في مفوضات فرنكفورت عام 1992م التي انعقدت بين ممثلهم آنذاك الدكتور علي الحاج والدكتور لأم أكول ممثلا لمجموعة (الناصر المنشقة عن الحركة الشعبية) في ذلك الوقت فلقد تلت تلك المفوضات هرولة مماثلة من جميع الأحزاب المعارضة بلا استثناء حيث وقعت اتفاقية (شقدوم) بين الحركة الشعبية و حزب الأمة وسبقها بشهر وأحد بيان التفاهم المشترك بين الحركة الشعبية و الحزب الاتحادي الديمقراطي وأخيرا الحزب الشيوعي السوداني في لقاءه مع الحركة الشعبية في أبريل 1995م . المهم في الأمر إن جميع الأحزاب السودانية الرئيسة قد شاركت ولو بدرجات متفاوتة في صنع قرار منح شعب الجنوب حق تقرير المصير فكما أجازته قوى المعارضة في وثيقة (مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية) عام 1995م عادت الإنقاذ ونفذته عام 2005م عبر اتفاقية (نيفاشا) للسلام الشامل بعد أن رفع عنها الحرج وفتح الباب على مصراعيه أمامها لتحقيق حلم الحركة الإسلامية التاريخي المتمثل في التخلص من المكون المسيحي في السودان والتفرغ لاستعادة دولة الخلافة. إن فصل الجنوب المسيحي و التفرد بالحكم في الشمال وبناء دولة العروبة الإسلامية ظل هوى وأشواق تداعب خيال كثير من رجالات الحركة الإسلامية في السودان حتى دانت لهم الفرصة ووفرت لهم الأحزاب المعارضة في مؤتمر أسمرا المسوغ الأخلاقي والغطاء الشرعي للإفصاح عن ذلك الحلم والعمل الجاد علي تنفيذه علنا ودون حرج ، فعلاما تتباكى قوى المعارضة اليوم وتجر المسوغات الهشة في محاولة بائسة لنفض اليد وإخلاء المسئولية. نعم أن دهاقنة نظام الإنقاذ قد عملوا منذ توليهم السلطة على مخطط فصل الجنوب والتخلص من همه ولكن في نفس الوقت لا يمكن إغفال حقيقة إن مواقف معظم الأحزاب غير الواضحة والمضطربة ولا مبدئية سهلت عليهم أمر الشروع العملي في التنفيذ فبعد ما كان مجرد طموح مضمر وادغاث أحلام تراود مخيلتهم أصبح جند قابل للنقاش العلني بل والنفاذ!!! . نواصل تيسير حسن إدريس 18/09/2010م