قراءة في أحداث واشنطن ونيويورك .. مناظر الجمعة الأولى.. خطاب الأستاذ (2-5) رباح الصادق في المقال الأول قلنا إن مؤتمر واشنطن بالجمعة 24/9 على هامش اجتماعات الأممالمتحدة، كان وساطة أمريكية لإنهاء التوتر بين الشريكين، وسبقه بالجمعة 17/9 حدثان هامان: خطاب السيد سلفا كير أمام مؤتمر الكوكس الأسود. وخطاب الأستاذ علي عثمان، وسنتعرض له اليوم لنواصل بإذن الله حول ما دار بالجمعة الثانية، والتفاوض بعدها. الخطاب الذي سلمه الأستاذ علي عثمان محمد طه للإدارة الأمريكية عبر سفارة السودان كقيدومة للعرس النيويوركي الوشيك كان بتاريخ 17/9 مختصرا «مفيدا» لخطته التكتيكية، وقد تداولت الصحف السودانية شذرات من محتواه وكررتها، وكنا نرجو مع أهميته وقصره أن يترجم وينشر كاملا، فالسيد علي عثمان وهو يخاطب الأمريكان كان يخاطبنا أيضا، ويخاطب عشيرته المقربة. في ضربة معلّم! ممهدا لضرباته القادمة وسنتطرق لها في أوانها كخطابه أمام الأممالمتحدة وخطابه في الاجتماع الخاص بالسودان، وقد صفّق له أستاذنا عادل الباز، ووصفته الكاتبة الإسفيرية السيدة سارة عيسى ب(الرجل العاقل في مركب المجانين) إشارة منها لما كان «يهببه» الوزير السيد كمال عبيد في الخرطوم، والوزير السيد علي كرتي في فلادلفيا، وهي أقوال شاعت وشيّعت أمل المؤملين – ولسنا منهم - في طاقم الوزارة الجديد هذا، وبكى الأستاذ إبراهيم الكرسني شعراً بقصيدة عنوانها «صاحبنا شول وحقنة كمال»، بكى من كلام السيد الوزير كمال حول مآلات الانفصال على الجنوبيين في الشمال وإنهم سيحرمون حقنة الدواء: بتلقى زول... ودوهو لندن شان زلال و بتلقى زول ميت هناك حرموهو من «حقنة كمال» و الله دا الخرتوم عموم دعنا من تلك الهموم نحن لا نريد نكأ الجراح الآن.. لنذكر فقط ما قاله السيد علي عثمان، واعذرني قارئي الكريم وقارئتي الفطنة لأنني سأورد فقرات طويلة من الخطاب القصير لأهميته بسبب غياب نسخته الكاملة من الصحف التي اكتفت كما قلنا ببضع مقتطفات. كتب الأستاذ في خطابه المرسل لحكومة الولاياتالمتحدة عبر سفارة السودان في يوم الجمعة المذكور بعنوان: «آن أوان بداية جديدة للعلاقات السودانية الأمريكية»، معرفا بأنه الذي فاوض الجنوب في اتفاقية السلام الشامل، وقد ترجمنا الخطاب فعذرا لو لم تكن الترجمة دقيقة. قال الأستاذ: (كانت حكومة الرئيس عمر حسن البشير قد حكمت لمدة 20 شهرا بالكاد، حينما أصبحت أول سلطة سياسية سودانية تعترف رسميا بحق جنوب السودان في تقرير المصير وذلك في اتفاقية فرانكفورت. اتخذت تلك الخطوة ، قبل عشر سنوات من بروتوكول مشاكوس الذي مهد الطريق لاتفاقية السلام الشامل بعده بثلاث سنوات، الاتفاقية التي أنهت أطول حرب أهلية في أفريقيا، وهي خطوة تدشن أسسا جديدة في أفريقيا القارة التي تلتزم بالحدود الموروثة من الاستعمار وتعترض على تغييرها. استند ذلك على منطق الإيمان بأن الحرب بين الشمال والجنوب كانت في عامها التاسع، كما أنها احتدمت قبل ذلك لمدة 16 عاما، مما يحتاج لمعالجة مختلفة تسمح بالوحدة الطوعية أو الانفصال). اتفاق فرانكفورت كان في يناير 1992م، ومسافته منذ يونيو 1989م هي ثلاثون وليس عشرين شهرأ كما جاء في ورقة الأستاذ. وهذه الغلطة تؤكد أن العاملين في مكتب السيد نائب رئيس الجمهورية ثم في سفارة السودان غير متابعين, وإلا لاكتشفوها, ولتم إصلاحها. ولكن الخدمة المدنية للأسف صارت مرتعا للحى الولاء وخُمُره، لا ميدانا لأهل الكفاءة والخبرة والعين (النجيضة).. خطأ صغير يعكس مصيبة أخرى من مصائب الانقاذ! كذلك فإن عرض نظام «الإنقاذ» لتقرير المصير لم يكن لأنه وجد طلبٌ مقابله (مفاوضات الديمقراطية خلت من أي كلام عنه) ولكنه كان مناورة «إنقاذية» غير جادة: أُثبت في المفاوضات التي ترعاها الإيقاد أن جولة مفاوضات مايو 1994م شهدت غضبا حكوميا باعتبار أن لجنة الوسطاء تبنت أطروحات الحركة الشعبية في تركيزها على حق تقرير المصير، وفي الجولة التي تلتها بنيروبي (يوليو 1994م) رفض وفد الحكومة النقاط التالية من (إعلان المبادئ): 1- حق تقرير المصير. 2- علمانية الدولة. 3- الاستقلال في حالة عدم الاتفاق عبر الاستفتاء(أحمد محمد عبد الغني رحلة السلام في السودان (3): من أديس أبابا 1972 إلى ميشاكوس 2002م صحيفة 26 سبتمبر العدد 1025).. وجرى تكفير وتخوين واسع النطاق لكل من يقول بحق تقرير المصير لأهل الجنوب في حينها وقد نالنا من ذلك في حينها نصيب! وبالمناسبة الأمريكان يعرفون تلك القصة فهم «القرباب» اللصيق الذي يعلم كل ما يدور كما في المثل، وقد شاركوا عبر مؤتمر واشنطن (أكتوبر 1993م) الذي نظمه السناتور هاري جونستون للفصائل الجنوبية فأجمعت على حق تقرير المصير، وعبر قرار الكونغرس في نفس العام بتشجيع حق تقرير المصير للجنوب. حكومة السيد البشير لم تعط حق تقرير المصير بعد عشرين شهرا بل لا تزال بعد أكثر من عشرين عاما لا تؤمن به والأفعال أبلغ من الأقوال! ولكن: ما بال الأستاذ يقول إنهم تفضلوا بحق تقرير المصير، وبعض ركاب مركبه يتنصلون من ذلك ويقولون إن الحركة هي التي بادرت به وإن قوى المعارضة هي التي سوقته كما لو كان ذلك قلة في الوطنية؟ سؤال: لماذا لم يترجم كلام الأستاذ علي عثمان وينشر كاملا وهو مهم مهم للغاية؟ أكد الأستاذ أنهم في الشمال مؤمنون وملتزمون بتنفيذ الترتيبات الأمنية بشهادة تقرير مفوضية التقويم والتقدير التي يشارك فيها المجتمع الدولي الضامن للاتفاقية وقد أثبتت انسحابهم الكامل، بينما الهيئة العسكرية المشتركة لوقف إطلاق النار قالت إن الحركة لم تنسحب إلا بمقدار 26%، قال الأستاذ: (يرجع الفضل في ذلك بشكل مباشر لرجل واحد: عمر البشير، فكونه رجلا عسكريا كان قادرا على إقناع مساعديه العسكريين بالترتيبات الأمنية، والأهم من ذلك الوفاء بها بطريقة لا يمكن أن يفعلها أي زعيم مدني). ثم تساءل: (والآن حيث يفصلنا ما يزيد قليلا على مائة يوم من الاستفتاء، ما الذي يجب القيام به لا سيما بالنسبة للولايات المتحدة؟). أجاب الأستاذ مؤكدا ضرورة الفراغ من ترسيم الحدود التي تبلغ 2100 كلم بين الشمال والجنوب قبل يوم التصويت، ذاكرا أن 80% من الترسيم قد فرغ. وقال إنه قد قضى 17 شهرا في التفاوض مع الراحل الدكتور جون قرنق حول تفاصيل البروتوكولات الستة لاتفاقية السلام الشامل، خلالها وصلا لنتيجتين رئيسيتين نُصَّ عليهما بوضوح في الاتفاقية: البند 2.4.2 القاضي بجعل الوحدة جاذبة لشعب الجنوب، والبند 5.2 القاضي بأن يجري الاستفتاء في نهاية الفترة الانتقالية (لكي يؤكد وحدة السودان عن طريق التصويت لاعتماد نظام الحكم الذي تم وضعه بموجب اتفاقية السلام، أو التصويت للانفصال). قال الأستاذ: (هذان النصان يبينان بوضوح أن العمل من أجل الوحدة الوطنية، بالتوازي مع الترتيبات القائمة، يشكل أولوية، ومسؤولية أخلاقية ورسمية، ليس فقط للطرفين، ولكن أيضا لأولئك الذين شهدوا وضمنوا اتفاقية السلام الشامل كالولاياتالمتحدة). ولكن مربط الفرس في خطاب الأستاذ هو قوله: (الولاياتالمتحدة تطالب الحكومة السودانية بتسوية مشكلة دارفور، وضمان إجراء الاستفتاء في الوقت المحدد، والاعتراف بنتائجه ذات التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعددة حال انفصل الجنوب. وبذات القدر عليها (أي الولاياتالمتحدة) أن تسأل نفسها كيف يمكن أن يتم ذلك في حين أنها تعتمد سياسات تهدف لإضعاف الدولة ورئيسها الذي يسيطر فعليا على قرار الحرب والسلم؟ إن القضية لا تعني السودان فحسب، ولكن التأثير الإقليمي الناتج إذا تتفكك هذا البلد نتيجة الحملة المتواصلة لتشويه صورته وإضعافه من خلال العقوبات والعزلة. لقد آن أوان بداية جديدة للعلاقات بين الولاياتالمتحدة والسودان.) هذا الأهم في كلام الأستاذ فلفله الكاتب الإسفيري خفيف الظل كثير العلم والمعلومات السيد ثروت قاسم في مقاله (تفاصيل الصفقة التي فشل الأستاذ علي عثمان محمد طه في إبرامها مع الرئيس أوباما) أظهر السيد ثروت أن الخطاب يحمل صفقة مفادها أن «الرئيس البشير هو الحل!» وأن على الإدارة الأمريكية: شطب أمر قبض الرئيس البشير ووقف إضعافه وهو الذي يقرر وحده في أمور السلام والحرب! واعتبار ملف دارفور مسألة سودانية داخلية يحسمها السودان بدون تدخل خارجي، وذلك في مقابل التزام الإنقاذ بعقد الاستفتاء في مواعيده والاعتراف بنتيجته! لعلك لم تنس قارئنا وقارئتنا الكريمة ما سقناه حول خطاب السيد سلفا في نفس اليوم (17/9) وكيف كان صريحا وعدائيا للشريك الأكبر وتأجيجيا. هنا لغة مختلفة، فخطاب سلفا خطاب حبيب لمحب فاته أن يمقته هونا ما، وخطاب علي خطاب عزول لمحب مصلحته في أن يحبه هونا ما، لغته فيها شكوى من الشريك الأصغر في نقطتين سيقتا بشكل دبلوماسي وبدون تحبير بحيث أن الأستاذ يتعامل مع لبيب تكفيه الإشارة: الأولى أن الشريك لم يسحب قواته إلا بمقدار الربع تقريبا في حين التزم المؤتمر الوطني، والثانية أنه لم يعمل للوحدة كأولوية، وينبغي له ولأمريكا التي تكابره أن يعملوا لها كأولوية! فعلا الأستاذ يفصله بون شاسع من «مركب المجانين»، فوزير الخارجية «شخصيا» هو الذي لا يهتم للعلاقة بأمريكا التي يقطع بموالاتها للحركة و»الرزق على الله»! إنها كروت محروقة، فلا تقولن «الإنقاذ» لنا: (علي كرتي)! وإن كان من قائل بأن هذه المركب لا يُستثنى فيها أحدٌ: بعضه ناعم الملمس، وبعضه خشن، بعضه يرسم ابتسامة، وبعضه يكشّر، وكله يضمر ما يضمر من تحطيم الآخرين وإبقاء «الإنقاذ» تحكم فوق التلة! ولكننا ربما نقف في صف أخينا المصري الذي حينما قابله أحد الأنصار بالكوكاب (وهو حربة رأسها مشرشر فظيعة مريعة) صرخ فيه قائلا: بالملسة وحياتك! وكله بالنهاية تحطيم! صفقة الأستاذ الكامنة في خطابه لم تتم أو ردتها الإدارة الأمريكية، مع كامل الاحترام! فالرئيس أوباما في كلمته أمام المؤتمر بشأن السودان -وسترد تفاصيلها والفيلم النيويوركي برمته لاحقا- أذعن لرغبة المؤتمر الوطني أن يكون النائب الأول مرؤوسا للنائب، فذكر أوباما في خطابه الأستاذ علي قبل الفريق أول سلفا، وحينما حياهما على الأرض قصد أن يصافح الأستاذ قبل صاحبه، ورفض أن يقابل سلفا وحده.. هذا الاحترام الأوبامي لرغبات المؤتمر الوطني البروتوكولية، لم يعن البتة أن يحمل كيله فوق بعيره، ومثلما أعاد يوسف لإخوته بضاعتهم وقال لهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ)، فإن أوباما قال بكل تهذيب كما سنرى: لا نبغي، فكانت بضاعة المؤتمر الوطني قد ردت إليه، هل يجد بضاعة أخرى يعرضها لإكمال الصفقة المذكورة؟ وهي كما أوضحنا لا تتعلق بتهدئة العلاقات مع الحركة الشعبية (الغرض الرئيسي من الفيلم النيويوركي) بل بصفقة ثنائية بين طرفين هما المؤتمر الوطني والإدارة الأمريكية. في خطاب الأستاذ أن المفراكة الأمريكية مطلوبة لتسبيك حلة المؤتمر الوطني، لا حلة السودان وما فيه من شريكين يموران وقوى وطنية أخرى تبكي على السودان وتصرخ! بيد أن الغرقى لا يسمعون صراخا، وقد قال شاعر الأنصار خضر عرمان لغريق في يوم ما: حقيقة ما بسمع صراخ النايحين ميت.. غريق! نواصل بإذن الله، وليبق ما بيننا