في الشأن العام اليأس المبكر وإيقاظ الفتنة د.سعاد ابراهيم عيسي كتبت في موضوع سابق بأنه إذا قدر للجنوب أن ينفصل عن الشمال، فلن يكون ذلك نهاية العالم، ولا يجوز أن يجعل منه سببا لهدم المعبد على رؤوس الجميع. فتقرير المصير لم يجعل من الوحدة الخيار الأوحد حتى يلام الآخرون إن لم يلتزموا بتحقيقها، بل جعل منها الخيار المفضل إذا التزم الشريكان، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، بالعمل على تحبيبها للمواطن الجنوبي، بعد أن يشعر بفوائدها وقيمتها، تغييرا موجبا في تنمية بلده، وتيسيرا متناميا في مسيرة حياته اليومية. ولكن وبكل أسف فقد فشل الاثنان في تحقيق ذلك الهدف، وان تفاوتت درجات مسؤوليته بينهما، إلا أن المحصلة النهائية وبعد انقضاء الفترة الانتقالية المحددة لذلك، هي ان الوحدة ما عادت جاذبة لدى المواطن بالجنوب، وحتى البعض ممن كانوا من مؤيديها بالشمال، ارتدوا عن تأييدهم لها مجرد وصولهم للجنوب، فأعلن بعضهم تبنيه الانفصال وعلى رؤوس الأشهاد، دعك من الرافضين لها أصلا. وعليه فإن هستيريا البكاء على اللبن المسكوب التي انتابت البعض بالشمال حاليا، لن تجدي نفعا. نشهد بأن الحكومة بالشمال رأت أن تسعى للوصول إلى الوحدة وان كان سعيها قد جاء متأخرا، رغم ذلك لها ان تسعى، وبالطبع ليس عليها إدراك النجاح، لكن كان من الأجدى وهى تسعى للوحدة ان تسعى في ذات الوقت لكي تجعل من الانفصال، حال حدوثه، بعيدا عن اية آثار سالبة تضر بأمن الوطن والمواطن. ولعل الجميع سمع وقرأ أن الشريكين، الحكومة والحركة الشعبية، قد شرعا في السير في اتجاه التحسب لنتائج الاستفتاء، وحدة كانت أو انفصالا، عندما تم الإعلان عن تكوين لجنة للإعداد لاستحقاقات ما بعد الاستفتاء، وكيفية مواجهة اية من الحالتين والاستعداد لهما بما يجعل من حدوثهما متوقعا ومقبولا، ومن ثم يعمل على ما يحقق أهداف الشمال والجنوب في مستقبل يسوده الود والوئام والسلام، وعلاقات تكاملية علمية مدروسة، تسير في اتجاه تطور وتقدم الجانبين. لكن كثيرا ما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، خاصة الرياح التي تثيرها أقوال وأفعال أصحاب السفن ذاتها. فالحكومة بالشمال، ومن شدة حرصها على تحقيق الوحدة، كونت لجنة خاصة لذلك الهدف بقيادة المشير سوار الذهب، ومن بعد لحقت بها عدة لجان أخرى، تسعى جميعها من أجل الوصول لهدف الوحدة. ولضيق الوقت وعظم المهمة، كان من المتوقع ان تعمل الحكومة بكل الجد والاجتهاد على دعم الجهد المبذول في ذلك الاتجاه، فإن لم يكن بتيسير مهمة القائمين على ذلك الأمر، فلا أقل من أن تمنع العمل في اتجاه عرقلة خطواتهم وإفساد مساعيهم وإبطال مفعول جهدهم المبذول للترغيب في الوحدة. فاللجنة هذه وغيرها من الكيانات الأخرى التي ملأت الساحة السياسية تدعو جميعها وتبشر بالوحدة، ورغم الجهد الكبير الذى تبذله في أن تجعل خيار الوحدة هو الأفضل لمواطني الجنوب، تفاجأ ببعض من قيادات ذات الحكومة تعمل في الاتجاه المعاكس تماما لدعم الوحدة، بل تعمل وبكل وضوح وقوة لدعم الانفصال، وفى مقدمة ذلك التشكيك في مستقبل دعاة الوحدة من الجنوبيين متى انفصل الجنوب. والمؤسف أكثر أن المسؤولين بهذا النظام لهم مطلق الحرية في أن يفعلوا ما يشاءوا ويختاروا، ويقولوا ما يروق لهم من قول «فارغ أو مليان»، بصرف النظر عن مشيئة واختيار الدولة والمواطنين وما يمكن أن يتسبب فيه قولهم أو فعلهم من مصائب للآخرين. لقد بدأت سياسة الاتجاه المعاكس لاتجاه الوحدة بتصريح لأحد كبار المسؤولين بالدولة، حيث صرح بأنه إذا قرر الجنوبيون الانفصال فإن الشمال سيحرمهم من التمتع بالحريات الأربع المتفق عليها طبعا، وكأنما تلك الحريات مشروطة بالتصويت لصالح الوحدة، والحريات الأربع هذه عادة ما تطبق على غير مواطني البلد المحدد، بمعنى إنها تتم لصالح المواطنين من الدولتين المعنيتين المتجاورتين، للاستفادة من التمتع بها في رحاب الدولة الأخرى. والحريات الأربع يمثلها حق الإقامة والتملك والعمل والتنقل. ومن ثم يصبح الحديث عن حرمان الجنوبيين من هذه الحقوق حال انفصالهم بلا معنى، لأن هذه الممارسة مرتبطة أساسا بحالة الانفصال.لأن المواطن العادي جنوبيا كان أو شماليا، لا يحتاج إلى حريات أربع أو خمس، ليتمتع بحقوقه المكفولة له قانونا. لذلك فإن المسؤول الذى صرح بهذا الرفض لا أظنه يقصد أكثر من الكيد السياسي وتعكير الجو العكر أصلا. ومثل هذا التصريح يعتبر من بين محببات الانفصال ومبررات اختياره. ومسؤول آخر صرح بأن السودان سيكون أفضل حالا بعد انفصال الجنوب، ورغم انه لم يوضح كيفية الوصول إلى ذلك الحال الأفضل بعد أن تبتر ثلث مساحة السودان تقريبا من جسده، ودون أن نتحدث عن النفط سبب المشكلة، وما سيفقده الشمال بسبب الانفصال، إلا أننا إذا نظرنا لهذه الفكرة، فكرة تقصير قامة السودان عبر الانفصال، وربطناها بفكرة سابقة لمسؤول آخر، رأى انه من الأفضل التركيز تنمويا على مثلث حدد أضلاعه وحصره بعد أن أبعد عنه، الجنوب وبعضا من أجزاء الشمال غربا وشرقا، يتضح اتساق الرأي الأخير مع سابقه، ومن ثم الاتجاه الذى يرمى إلى تحقيقه هؤلاء في مستقبل السودان. المهم الآن والحكومة تصر على الوحدة، فالذي رأى في انفصال الجنوب كل الخير للشمال، سيجعل من مهمة دعاة الوحدة من أعضاء حزبه في غاية الصعوبة، بل النظر إليها وكأنها مكابرة، أو مجرد ذر للرماد في العيون. أما وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة، فقد أذهل الجميع بتصريحه الأخير الذى قرر بموجبه «وعلى كيفه»، أن يحرم الجنوبيين من كل حقوقهم في المواطنة مباشرة بعد إعلان الانفصال، حيث لا بيع ولا شراء من أسواق الخرطوم، بل حذرهم سيادته من أنهم لن يحصلوا على «حقنة» في أي مستشفى شمالي. ونسأل السيد الوزير عن رأيه في ردة الفعل المتوقعة من مثل هذا التهديد والوعيد، هل يعتقد أن ذلك سيجعل المواطن الجنوبي يتنازل عن رأيه في الانفصال من أجل الحقنة؟ ودعك من فصله المعاملة بالمثل حيث يحرم الشمالي بالجنوب من كل ذلك بما فيه الحقنة في أي من مستشفيات الجنوب. فمثل هذا الحديث بجانب أنه يقوى من موقف وحجة دعاة الانفصال، حيث يمنحهم أفضل الأدلة والبراهين على مدى حقد وكره الشمال للجنوب، فإنه يجعل دعاة الوحدة من الجنوبيين يفكرون ألف مرة في موقفهم هذا، خاصة من هم بالشمال حاليا، ذلك لأنه إذا انفصل الجنوب فعلا، فسيصبحون مطاردين من الشمال، بمثل ما بشرهم به وزير الإعلام، ومنبوذين من الجنوب باعتبارهم خونة، ومن ثم سيعيدون النظر في قرارهم السابق، ومنهم من بدأ فعلا، فما الذى ستفعله لجنة دعم الوحدة مع تصريحات هدم الوحدة؟ وبالطبع لن يقصر الآخرون من قيادات المؤتمر الوطني، في اللحاق بركب عرقلة مساعي الوحدة الذى يقوده الناطق الرسمي باسم النظام، فخرج علينا وزير الشباب وعبر مؤتمر صحفي، لا ليحدثنا عن دور الشباب الذى يتربع على عرش وزارته، في دعم الوحدة، ولا عن التعبئة الشعبية التي يتولى أمرها بالحزب الحاكم، ودورها هي الأخرى في الدفع في اتجاه الوحدة، ولكن ليدلى بدلوه في اتجاه العرقلة المعززة لدعوة الانفصال. فقد حدد سيادته شروطه التي لا يصح الاستفتاء ومخرجاته إلا بتنفيذها، والمدهش حقا شرط مطالبة المجتمع الدولي بأن يفي بالتزاماته المالية التي اقتطعها على نفسه دعما لاتفاق السلام الشامل. يعنى لا قبول لنتائج الاستفتاء قبل أن يستلم حزبه أو حكومته المليارات الدولارية وعلى دائرة المليم حالا وفورا، ومن بعد، انفصل السودان أو التحم، ما مهم. ليس ذلك فحسب، فالمجتمع الدولي المطالب بدفع كل تلك المبالغ «كراعه في رقبته»، مطلوب منه وبعد تسليمها ان يلزم حده، ولا يتدخل في قصة الاستفتاء من بعيد أو قريب. كل هذه التصريحات السالبة والضارة التي أطلقها مسؤولو المؤتمر الوطني وبعد ان أصبحت بوادر الانفصال تلوح في الأفق هي مجرد بكاء على أطلال صنعوها بأيديهم. أما وزير الخارجية، ففي الوقت الذى يعلن فيه مسؤول آخر من حزبه عن ضرورة أن تعلن أحزاب المعارضة وتحدد موقفها من الوحدة الآن، رغم جهلنا لأهمية ذلك الطلب الآن، يعمل سيادته على التقليل من شأن أهم قيادات تلك الأحزاب، ووصفها بكل ما لا يليق بها كقيادات لها تاريخها ووزنها بين جماهيرها، وعلى رأس ذلك قصة تسلمها للأموال التي يتفضل بها عليها حزب سيادته، فتتسلمها ليلا ومن بعد تتنكر لهم نهارا. وبصرف النظر عن مدى أحقية تلك القيادات في تلك الأموال أو عدمها، هل لنا ان نعلم المصدر الذى يتحصل منه المؤتمر الوطني على كل تلك الأطنان من المال السايب؟ فإن كانت من خزينة الدولة وأموال الشعب، فلهذه الأحزاب نصيبها فيها مثلها مثل حزبه، أما إن كانت من جيب المؤتمر الوطني الخاص، فمن أين له هذا؟ وأخيرا قرر مجلس الوزراء انه لن يقوم استفتاء بجنوب السودان قبل ترسيم الحدود تماما. ورغم أن هذه الحدود ظل الجدل حول تحديدها محتدما طيلة الفترة الانتقالية، ودون أن نلمس حرصا من الجانبين على إكمال مهمتها، حتى لا تصبح عقبة أمام إجراء الاستفتاء الذى يدعو كلاهما إلى أن يتم إجراؤه في موعده المحدد، فالكل يدعى بأن الآخر هو المتسبب في عرقلة تلك المهمة الهامة. والآن وبعد أن لم يتبق على موعد الاستفتاء إلا أيام معدودات، رجعنا مرة أخرى إلى حالة المشاكسات والمعاكسات التي عايشناها بين الشريكين طيلة الفترة الانتقالية، والتي قادتنا إلى الموقف المتأزم الذى يعيشه السودان اليوم، والذي سيصبح شرط ترسيم الحدود وكأنه إشارة المرور الوحيدة لإجراء الاستفتاء، أكبر واخطر إضافة للازمة الحالية. أما الحركة الشعبية وحكومتها بالجنوب فهي الأخرى لها دورها الخاص حيث الدعوة للانفصال مع الإعلان عن الوحدة، حتى وصلت مرحلة تعذر معها إخفاء الحقائق، فصرحت باتجاهاتها الداعمة للانفصال علنا، كان ذلك داخل البلاد أو خارجها. وبالطبع بمثل ما للمؤتمر الوطني صقوره الجارحة من المسؤولين، فللحركة صقورها الخاصة. فقد ظل البعض من قيادات الحركة يقابل دعوة الوحدة من الشمال وكأنها استجداء وتوسل من أجل الوصول إلى ثروات الجنوب، بل يرى بعضهم أن الشمال يدعو لوحدة مع ثروات الجنوب دون مواطنيه، وغير ذلك من الأساليب المستفزة والجارحة للشعور العام. أما حول أمر تصريحات مسؤولي الشمال تجاه مواطني الجنوب في حالة الانفصال، فقد كانت الإجابات عليها من مسؤولي الحركة، جاهزة وفى محلها. فعندما أعلن وزير الإعلام الشمالي بأن مواطني الجنوب لن يحصلوا على حقنة من مستشفى بالشمال بمجرد انفصال الجنوب، رد عليه أحد المسؤولين بالجنوب بأحسن منها، حيث أن الشمال أيضا، لن يحصل على جالون واحد من بنزين الجنوب حال انفصاله. والمؤسف جدا أن السجال الدائر حول الوحدة والانفصال والصور القاتمة التي افلح البعض في رسمها لمستقبل البلاد والعباد، قد أدى إلى إصابة المواطنين، جنوبيين كانوا بالشمال، أو شماليين كانوا بالجنوب، بل كل المواطنين بالسودان، بكثير من الهلع والخوف من المجهول. وإقرارا للحق فإن دور قيادات الحركة الشعبية في هذا الجانب، كان موجبا. فقد صرح أحد قياداتها ومن حمائمها، بأنه متى انفصل الجنوب فإن المواطن الشمالي لن يضار أبدا، بل ستحفظ حقوقه الاجتماعية والاقتصادية كاملة، كما صرح رئيس حكومة الجنوب بأنه لن يسمح بأن يمس اى شمالي بسوء حال انفصال الجنوب، كما وسيعاقب كل من يحاول الإضرار بالشماليين اقتصاديا أو امنيا، وجميعها تصريحات تتطلب تطبيق سياسة المعاملة بالمثل. الصحافة