هناك فرق حكاية الفكي بول ..! منى أبو زيد في فنّ الواقعية السحرية، تتحقَّق متعة القارئ عندما ينجح الكاتب في انتزاع دهشته بسردٍ شديد الواقعية، لحدثٍ شديد الغرابة، كما في (كتاب الرمل) لبورخيس .. (المسخ) لكافكا .. (أجمل رجل غريق) لماركيز .. وغيرها ... عندما تقرأ عن كتاب بورخيس الغريب، ذي الصفحات المتجددة بلانهاية .. أو بطل كافكا الذي تحوَّل حشرة ضخمة .. أو غريق ماركيز الذي تُوِّج ملكاً بعد موته، لا تشعر أبداً أن مناخ السرد يتواطأ مع طقس اللغة لإدهاشك .. بل على العكس تماماً، يبتعد السرد عن الفهلوة مفسحاً المجال لغرائبية الحدث نفسه ..! وهذا هو بالضبط النهج الحكائي الذي سارت عليه وكالات الأنباء والصحف والقنوات الفضائية في تناولها حكاية العرّاف بول، وردود الأفعال على تنبؤاته، والتي حاكت في تفاقمها الذي يشبه انتشار العدوى! ردود الأفعال الرسمية والشعبية التي أعقبت خبر موت الماما غراندي في قصة ماركيز (الأم الكبيرة) ..! إذ، وعلى طريقة رواد الواقعية السحرية، ظلت وسائل الإعلام تردِّد بلا كلل .. كان يا ما كان، كان هنالك حيوان بحري رخوي، من فصيلة اللافقاريات، اسمه الأخطبوط بول، كان يعيش في أمان الله داخل حوض زجاجي في متحف للحياة البحرية بإحدى المدن الألمانية، عندما فكَّر أحدٌ ما في استخدام خياراته العشوائية لتناول وجبات طعامه، في التنبؤ بنتائج مباريات كرة القدم ..! ثمانِ نبوءات خرساء، أجلسَت الفكي بول على كرسي الشهرة، ونصَّبته حارساً برتبة مشير على بوابة الغيب المواربة، وأظهرت هشاشة الواقعية المادية الغربية، وعَوْلَمَت فكرة التخلف (العالم ثالثيّ)، بل الأهم من ذلك كله أنها قد أسهمت في (أنسنة) الإيمان بعوالم الخرافة، وذلك بعد أن ثبُت بما لا يدع مجالاً للشك المعقول أن الجنس الآري نفسه ! لا يمانع في زيارة القباب والأضرحة، ولا يستنكف الجلوس بين يدي الفكي، عندما يتعلق الأمر بفتوحات كرة القدم ..! هنا تفاجئك الصحف بسرد ردود الأفعال على طريقة ماركيز في (الماما غراندي)، غلَّف رئيس الوزراء الإسباني قلقه على حياة الفكي بول بوازع من تعصُّبه الكروي بإطلاق اقتراح بصيغة دعابةٍ توصي بإرسال قوات خاصة لحماية الأخطبوط العرّاف، انطلقت دعوات إسبانية لحماية بول من بطش المشجعين الألمان، دبَّج صحافيون محترمون عدة مقالات بالصحف الألمانية تدعو إلى وضع بول في المقلاة، أو شوائه بعد نقعه في زيت الزيتون والحامض، عرَض رجال أعمال أسبان شراء بول بعشرات الآلاف من اليوروهات ..! اتخذ المجلس البلدي في بلدة (كاربالينو) بشمال غربي أسبانيا قراراً بالإجماع يقضي بمنح الفكي بول المواطنة الشرفية، تعبيراً عن امتنان الشعب الإسباني لأخطبوط بريطاني المولد ألماني الجنسية، وقضت مراسم التكريم بأن يسافر رئيس البلدية؛ السيد كارلوس مونتس، إلى مقر إقامة الأخطبوط العراف في ألمانيا لتسليمه علبة طعام زجاجية عليها علم بلدة كاربالينو، فضلاً عن إطلاق بعض بعض المواطنين الإسبان اسم «بول» على مواليدهم الجدد ..! في معرض تفكيكهم لمصطلح \"الإيحاء النفسي\"، يقول علماء النفس، إنك إذا ما أردت أن توجِّه أنظار مجموعة من الناس نحو شيء ما، فما عليك سوى أن تقف محدقاً نحو ذلك الشيء، عندها سوف يحذو الجميع حذوك .. قل لهم إن البناية تحترق ولسوف تجد من يتبرع قائلاً إنه قد اشتم رائحة الدخان، وآخر يجزم برؤيته ألسنة اللهب ..! والاستحواذ عند ذات الاختصاصيين هو أن تسيطر بعض الأفكار على بعض الأشخاص، فيعيشون انفعالات غير منطقية، ويأتون بأفعال غير سوية، قد توردهم موارد حوض الفكي بول.. أو (قُطيَّة) الفكي أبكر .. لا فرق يذكر في موازين علم النفس الاجتماعي، الذي ينهض في مجمله على عَوْلَمة الأفعال، وأنْسَنة الانفعالات ..! التيار