بشفافية المحبطون والعاطلون والمغبونون قادمون حيدر المكاشفي للأستاذ المفكر الاستراتيجي محمد أبو القاسم حاج حمد رحمه الله، بعضُ آراء يعجب لها العامة ويختلف حولها الخاصة وتثير الجدل عند خاصة الخاصة، فهو من القلة الذين إستطاعوا تأسيس مدرسة فكرية ذات أسس وقواعد ومنهج وله حواريون ومريدون في شتى البلدان العربية والاسلامية وله أيضاً في العديد من الجامعات ومراكز الابحاث وجود ظاهر وطلاب نجباء، فالرجل أثابه الله، مؤسسة ثقافية بحثية موسوعية متحركة قائمة بذاتها ومكتفية بنفسها، وهو إلى جانب ذلك محب للحياة ومنفتح عليها، يحب البهجة ويلقي النكتة ويمارس السخرية، قال لي مرة عندما سألته وكان قد عاد للتو من زيارة قصيرة لدولة نيجيريا، كيف وجدت نيجيريا، قال وهو ينفث دخان سيجارته ويفتر فمه عن نصف ابتسامة، «النيجيريين مبسوطين مني لأني قلت ليهم حوالي ثمانين في المائة من الشعب السوداني ذوي أصول نيجيرية»، لم يزد على ذلك ولم استوضحه المزيد، فهذا الموضوع كان وما يزال محل جدل وأحياناً مزايدة وأحايين أُخر مكايدة، علاوة على أنني في هذا المضمار من أنصار مدرسة العبادي «جعلي ودنقلاوي وشايقي شن فايداني، يكفي النيل أبونا والجنس سوداني»... ومن مذاكرات حاج حمد التي جعلتني سيولة الاحوال السياسية القائمة الآن أتذكرها، ما كان قد ذكره قبيل وفاته بقليل قبل نحو ستة أعوام حين كان كدأبه وعادته يحلل «الأحوال» والأحداث الجارية و«يفلفلها» ويستطلع المستقبل ذات جلسة تفاكرية جمعتنا به فقد كان رحمه الله يرى أنه من الاستحالة أن تبقى أحوال البلاد على ما هي عليه، تسير بذات الوتيرة وبذات السياسات والممارسات وكان يراهن على أن الثورة آتية لا ريب، ولكنها ليست إنقلاب تنفذه صفوة عسكرية، لأسباب ذاتية وموضوعية، ولا هي إنتفاضة تفجرها النخب المدنية كما حدث في أبريل وقبله في أكتوبر وأيضاً لاسباب ذاتية وموضوعية، الثورة الآتية عند حاج حمد سيقودها المحبطون والعاطلون والمغبونون والهائمون بلا أمل، وقودها الشماشة والرعاع وسندها الهوامش والأطراف، فهل يا تُرى كان حاج حمد يرى أن ما تمر به البلاد هو عين ما مرت به فرنسا قبل نحو مائتين وعشرين عاماً فأنجب الثورة الفرنسية، أم تُراه كان يستبق كونداليزا رايس في التلويح بنظرية «الفوضى الخلاقة»، فحاج حمد كان قد قال ما قال في أخريات عام «2004» بينما لوّحت بها كوندي في منتصف عام «2005م» والمبدأ عندها يعني إثارة النعرات والاقليات والاثنيات والعرقيات في مناطق الصراع لتأجيجها حتى تجد أميركا حجة للتدخل ومنفذاً للسيطرة، أم أن الامر لا هو هذا ولا ذاك وإنما ميكافيللية قديمة في قناني جديدة يعود أصلها إلى القرن الرابع عشر وإلى ميكافيللي الذي عرّف السياسة منذ ذلك الوقت الغابر بأنها فن الخداع والغش أو فن الخساسة، فانظر له إذ يقول الشجاعة تنتج السلم والسلم ينتج الراحة والراحة تتبعها فوضى والفوضى تؤدي إلى الخراب ومن الفوضى ينشأ النظام، أو إن شئت فتأمل قوله الآخر «على الامير أن ينشر الدين ويظهر بمظهر الورع فهذا أفضل من أن يتصف بالاخلاق الحميدة، ومن الخير للأمير أن يتظاهر بالرحمة والتدين وحفظ الوعد والإخلاص ولكن عليه أن يكون مستعداً للإتصاف بعكسها»... هذا أو ذاك أو هذى أو تلك لا يهم فكلها سواء، فليس المهم الاختلاف حول أصل وفصل الأزمة، المهم الآن وبأعجل ما تيسر هو كيفية معالجتها، ولكن المعالجة للأسف لن تتيسر في ظل غياب أو تغييب -لا فرق- المرجعيات الفكرية والسياسية الراشدة والحكيمة والعاقلة، فالبلاد الآن في مفترق طرق، إما القيادة الخلاقة أو الفوضى الخلاقة، إما أن يتقدم العقلاء والحكماء والراشدون ويعلو صوتهم وإلا فالمحبطون والعاطلون والمغبونون قادمون... الصحافة