مالك يا الحنينة ما بتزوري الضرايح؟!!(1) منى سلمان [email protected] نشأنا في بيت (صوفي) الهوى عبقت ردهاته بعبير بخور اللبان، وطالما رددت جنباته صدى ترانيم المادحين ب (يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج) .. لم تكن ليالي الخميس لتمضي في بيتنا دون اجتماع المريدين لقراءة (المولد) أو حولية (سيدي الحسن أب جلابية)، فقد كان والدي عليه الرحمة من مريدي الطريقة الختمية وخلفائها.. وبالمقابل كانت جنبات دارنا تضئ فرحا بعمّتي (زينب) والتي تولت رعاية والدي بعد وفاة جدتي وهو صغير، عندما تحضر من ود مدني لزيارتنا في الخرطوم، فحضورها كان يعني لنا أن ننعم بليالي جميلة كالأنسام لذيذة كالأحلام، فكل ما كانت تحكيه أو تفعله كان مصدر لأنسنا وينحت في أحجار ذاكرتنا، ولكن ما كان يبهجنا بصورة خاصة هو اصرارها على الذهاب ونحن في صحبتها، إلى (برّي الشريف) لزيارة ضريح (الشريف الهندي) تبركا وعرفانا، وهي لا تكل من تكرار رواية (شحدة أبوي) منه، لأن الموت كان يرعى في خِلِفة جدتي من الصبيان، وكيف أن أبي طوال سنين طفولته الأولى كان يدقُلش بين أقرانه برأسه المزيّن دلجة إلا من قنبور في منتصف رأسه، يرمز ل (مشحوديته) من أبونا الشريف. وقبل عهود الوعي الديني التي عمّت بنورها القرى والحضر، كانت ولاءات قلوبنا الصغيرة، تحرك أعناقها تبعا لحركة شموس ولاءات أهلنا الصوفية .. فعندما نكون في الجزيرة تألف آذاننا سماع الدعوات والنديهة ب (تلحقنا وتنجدنا) و(الليلة يا يوسف) و(يا أب شرا يا راجل الضرا) و(يا سيد البنّية يا أبو العشرة وجد المية) إن تعثّر صغير أو تأزم كبير .. وكم تغنينا مع البنيات: يا أبوي يا السنّي .. دايراك تطمّني أصلو الغرام قسمة ولا منّو ولا منّي أما عندما نعود للخرطوم، فتعود قلوبنا (بحرّية) الهوى، وتهفو ل قبّة السيد (علي)، وتتسمع ندايه (يا سيدي الحسن يا أب جلابية)، ونطرب دون فهم وتطير قلوبنا من وقع ضربات النوبة وإنشاد الشباب في باحة الضريح: شيء لله يا حسن .. الذهاب لمدينة بحري كل يوم جمعة بصحبة أبي لزيارة (الضرايح)، كان طقسا إلزاميا فلا شغل ولا شاغل كان يحول بين أبي وصلاة الجمعة مع الخلفاء، أما نحن فغاية متعتنا ال (علي غبانا) كانت تتمثل في الاستمتاع بالدردقة على بلاط درجات السلم المؤدي للضريح، ثم خلع نعالنا وركنها بحرص على جنبة - خوفا من حرامية الشباشب - قبل الدخول وقد غمرتنا هيبة المكان.. كنّا نفعل مثل الكبار فنقف أمام الضريح ونرفع أيادينا بالفاتحة والدعاء لصاحبه، ثم نبدأ في الطواف حوله، وغاية ما يشغلنا هو تحسس نعومة الكساء الحريري الموشى الذي يغطي مقام الضريح، ثم ننحني عندما يُطلب منّا ذلك لنجلب بركة الزوارة، وذلك بخمش حسوة من التراب، نتلمّسه من فتحة تشبه السبلوقة أسفل المقام، ثم نقوم بفرك الخمشة في أيادينا الصغيرة ونتمسّح منها ما شاء الله لنا المسوح.. بعد انتهاء طقوس زيارة ضريح السيد (علي) كنّا نتوجه لزيارة بقية الشيوخ مثل السيد (المحجوب) ومجموعة القبور التي حوله ولا تسعفني الذاكرة بأسماء من يرقد فيها، وهنا يأتي دور افساح المجال لمتعة العطاء فقد كنّا نتخاصم عند أبوي حول من هو أولى بحمل (الريالات) ووضعها داخل صناديق الزيارة، ولكنه يرضينا جميعا لأنه كان يستعد لذلك الطقس فيملأ جيوبه بكمية من الريلات والأشلان، يقوم بتوزيعها علينا، فنتسابق لرميها عبر فتحات الصناديق ونتنصت لرنين سقوطها .. وبعد الشراب من ماء المزيرة الظليلة، والاستمتاع ببرودته التي تنزل بردا وسلاما على حلوقنا الناشفة من طول الجري والتنطيط ك السخيلات المتشاكسة، كنّا نترتدي نعالنا مرغمين لنتوجه لمحطتنا الأخيرة - حسب رغبة أمي - لزيارة الشيخ خوجلي الفوقو البركة .. قال نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرا)، وورد بسند صحيح أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تزور قبر عمها حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) كلّ جمعة، ولكن يا للفرق بين زيارة التدبر والاستعبار وبين زيارة التبرك والتوسل بجاه الأولياء الصالحين !! نواصل وللا الكلام دخل الحوش ؟ الرأي العام