زاوية حادة لا أعرف «الاغتراب إلى متى» جعفر عباس في 10 ديسمبر الجاري كنت متحدثاً في ندوة نظمتها رابطة الصيادلة السودانيين في قطر، وعندما قرأ الصديق أسامة حمور عنوان الندوة «الاغتراب إلى متى؟»، ضحكت بصوت مسموع، رغم أنني كنت أعرف العنوان سلفا، وما أضحكني هو أنني لم أكن أملك إجابة وافية على التساؤل. ربما كنت سأقدر على تقديم إجابة فورية لو طرح عليّ السؤال قبل 30 أو 25 سنة، فعندما اغتربت في بادئ الأمر، حدث ذلك مصادفة، عندما أبلغني الصديق شيخ إدريس مدني عن افتتاح مكتب توظيف تابع لشركة أرامكو النفطية في الخرطوم، فذهبت الى ذلك المكتب، وجلست لامتحان ترجمة وبعدها بنحو أسبوع طلبوا مني التوجه الى الظهران، وأقسم بالله إنني لم أفرح لذلك.. نعم قدمت طلبي لأرامكو للحصول على وظيفة، وجلست للاختبار، ولكنني فعلت ذلك لأنني أحب دائما استطلاع فرص العمل المتاحة، وقبلها بنحو ثلاث سنوات كنت قد اجتزت امتحان ترجمة نظمته الأممالمتحدة، ولكنني رفضت المثول أمام لجنة المعاينة (الإنترفيو)، وكنت وقتها أعمل مترجما وضابط إعلام بالسفارة البريطانية في الخرطوم ولم أرفض المضي قدما في مسعى الالتحاق بالأممالمتحدة فقط لأنني كنت أتقاضى راتبا محترما (بمقاييسي)، ولكن لأن فكرة البقاء خارج السودان لأمد غير معلوم لم تكن واردة في أجندتي الشخصية... وأقنعني الأقارب والأصدقاء بقبول العمل لدى أرامكو، وقد كان، وذهبت الى الظهران حاملا معي قرارا كالذي حمله معظم أبناء جيلي من المغتربين: سنتان أو ثلاث وأجمع ما يكفي لبناء بيت بسيط يضمني وعائلتي الصغيرة في الحاج يوسف او الدروشاب (سبق لي التذكير مرارا بأنني كمحسي أحمل جينات عشق أطراف المدن حيث السكن العشوائي وشبه العشوائي ذو التكلفة البسيطة) وتركت أرامكو وعدت السودان ثم ذهبت لى قطر وتركتها وذهبت الى أبوظبي ثم عدت ثانية إلى قطر. والشاهد هو أن الاغتراب «المفتوح» لم يكن واردا في أذهان معظم من اغتربوا قبل ثلاثة عقود أو ربع قرن، بل كان غاية المرام امتلاك بيت أو شراء حافلة او بوكس أو تراكتر، ولكن ما حدث هو أنه كلما نمت مدخراتنا واقتربنا من تحقيق أحلامنا البسيطة، كلما تقلصت قدرة الوطن وإمكاناته، وشيئا فشيئا لم يعد المغترب مسؤولا عن أسرته النووية الصغيرة بل عن الأسرة الممتدة، بعد ان رفعت الحكومات المتعاقبة أيديها عن الخدمات الضرورية، وجاء علينا نحن المغتربين حيناً من الدهر كنا فيه نحمل معنا الى السودان العدس والتونا والجبنة (وعلمت مؤخرا أنه يستحسن ان يحمل المغترب الذي يزور السودان خلال موسم نيفاشا الجاري، معه بعض الطماطم والبصل والرغيف لأن البترول الذي دخل علينا بالساحق والماحق أنسانا الزراعة ولهانا عنها) واستطيع أن أقول وبقلب جامد إنه ما من مغترب سوداني يعتزم العودة النهائية الى الوطن في تاريخ معلوم.. سيعود كثيرون إذا فقدوا وظائفهم في المهاجر، ولكن العودة عمدا ومع سبق الإصرار؟ ما أظنش .. فالمسألة لم تعد تتعلق بامتلاك بيت أو وسيلة نقل، بل «أهه رجعت: ثم ماذا بعد؟ حتى لو عندي الملايين، هل سأجد منفذا لاستثمارها؟ وكيف حال العلاج والتعليم والبطيخ؟» .. دول المهجر تشهد غلاء فاحشا ولم تعُد لمعظم المغتربين مدخرات، ولكنهم باتوا قانعين بالعيش «فروم هاند تو ماوث»، كي لا يقعوا تحت طائلة مقولة الراحل الظريف عوض دكام في التسعينات إنه حرامي بدليل أنه يأكل ويشرب ويربي ويعلم ويعالج عياله ويدفع الفواتير بينما دخله أقل من كلفة تلك الأشياء. في سبتمبر الماضي قدمني بلدياتي وزير الدفاع عبد الرحيم ميمد هسين تود الى الرئيس البشير في مناسبة عزاء وحياني الريس: أهلا ود حلتنا (بحكم أن كلينا يملك بيتا في كافوري) ثم تبادلنا حديثا عاما وسألني متى أعود الى الوطن نهائيا فقلت إنه لا توجد خارطة زمنية لذلك، فكان تعقيبه الذي عصر قلبي: يا أخوانا عشرات المغتربين بنوا بيوت فخمة وكتيرين منهم ما دخلوا بيوتهم إلا «جنازة».. كان كلاما مؤلما لأنه «حقيقي».. عندما نظم نميري اول استفتاء ليصبح رئيسا للجمهورية غنى إبراهيم عوض: يا ريس براك شفت.. أعظم وأروع «استفتا»، ولكن الناس حوروه الى «أغرب وأعجب استفتا».. وأعرف يا ريس أنك تريد لي أن «أتهنى» ببيتي، ولكنني لن أعرف طعم الهناء فيه طالما أنه مشمول بنيفاشا. الرأي العام