[email protected] كان (سعيد) رجل رقيق المشاعر والاحاسيس، وزادت الغربة الطويلة التي عاشها بعيدا عن البلد من رهافة مشاعره .. منذ نعومة اظافره كان يقشعر من رؤية الجروح والدم، لذلك لم يكن يستمتع مثل بقية اصحابه من الاطفال الاشقياء بقتل القطط والكلاب الضالة رجما بالحجارة، كما أنه كان يتجنب حتى الوقوف للفرجة على ذبح خروف الضحية. بعد اجتهاد في التدبير والتوفير ومعونة السلفية، عاد للبلد وأكمل زواجه من ابنة خاله (حنان) واحضرها معه بعد ان جهز لها شقة صغيرة وانيقة (قدر قدرتو) .. ومرت الايام كالخيال احلام وتكور بطن حنان مبشرا بقدوم ولي العهد فصارا يعدان الايام شوقا لقدومه السعيد، ومع اكتمال تاسع الاهلة اكمل (سعيد) اجراءات استقدام خالته لتشرف على ولادة ابنتها وتعينهم في رعاية الوليد.. يبدو ان فرحة (حنان) بلقاء امها قد عجل بمقدم الحفيد فقد استيقظوا صباح اليوم التالي على صوت أنين وتأوهات الألم قبل مغادرة (سعيد) للعمل، فطلبت (حنان) من والدتها ان تستعجل للخروج معهم للمستشفى.. طوال الطريق للمستشفى، قاد (سعيد) السيارة في صمت قلق وجسمه يتصبب عرقا ويداه ترتجفان، بل والاسوأ انه كان يعاني آلاما في احشائه تفوق ما تعانيه حنان (بس فايتا بالصبر) .. بعد ادخالها لغرفة الولادة صار يزرع طرقات المستشفى جيئة وذهابا حتى صاحت فيه خالته: هي يا ولدي .. كدي أقعد شوية في بطن الواطة.. ماشي جاي فينا تخيط في الدروب زي محروق الحشا مالك؟!! اجابها متوترا: لكن يا حاجة الحكاية دي ما طوّلت شديد.. فطمأنته بأن (البكرية أصلا بتتأخر كدي) ولكنه وبعد فترة صمت بسيطة تهيأ له أنه سمع صوت صراخ يأتي من بعيد .. فانتفض واقفا والتفت لخالته قائلا: اتخيل لي يا حاجة أنا سامع صوت حنان قاعدة تكورك!! فاجابته ضجرة: امال دايرة تغني يعني .. ولا قايل الولادة دي هييينة كدي؟ ساءت حالة (سعيد) مع تقدم الساعات ووصل الى حافة الانهيار عندما خرج من الغرفة الطبيب وتوجه اليه.. أخبره الطبيب عن تعثر الولادة واضطرارهم للجوء لاجراء عملية قيصرية، طمأنه بعد أن رأى جحوظ عينيه بأن الحكاية بسيطة وبتخدير نصفي ولكنهم يحتاجون اليه في الداخل لان (حنان) قد بلغ بها الاجهاد مبلغا اصابها بالهبوط وتحتاج الى دعمه النفسي ووجوده الى جانبها اثناء الجراحة، أخفى ذعره الشديد ودخل معه، وبعد الباسه للباس العملية ادخلوه ووضعوا له مقعدا بجوار طاولة الجراحة. جلس بجوار (حنان) ممسكا بيدها، متصلبا جاحظ العينين يرتجف كالريشة في مهب الريح، ويقاوم احساس رهيب بالغثيان ويتجنب رفع عينيه حتى لا تقع عينيه على الدماء التي غطت الاطباء المنهمكين في العمل على شق احشاء (حنان) دون ان ينتبهوا لما يعانيه (سعيد) المتخشب على كرسيه في صمت، وقد تشبثت بيد (حنان) في تشنج حتى رفع الطبيب المولود وضرب على ظهره بخفه فصرخ صرخته الاولى ، ثم التفت الى (سعيد) وهو يقول: مبروك يا خي .. جالك ولد. هنا وقف (سعيد) على قدميه قبل أن ينهار على الارض كحائط قديم، مغميا عليه وقبل ان يتمكن من القول: الله يبارك فيك. الرأي العام