500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    حمّور زيادة يكتب: من الخرطوم إلى لاهاي    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ثنَايا يَوْمٍ أسْوَد قَديْم: خِطابٌ إلى العُقَلاء
نشر في الراكوبة يوم 28 - 12 - 2010


..
جمال محمد ابراهيم ..
أقرب إلى القلب:
هذا خطاب للعقلاء في الوطن المترامي الأطراف، قبيل تساقط بعضها جراء اقتراع على خيارين ، أقربهما إلى الواقع هو الانفصال بدم بارد. الخيار الأبعد هو الوحدة، وقد صار من يلاحقها كمن يلاحق عنقاء في سماء الأحلام . فيما يرجح المراقبون أن البلاد مقدمة على عواصف تنازع مخيف، و\"سوانيم\" عنف مطبق، تبقى برغم ذلك مساحات متوفرة لتعقل مطلوب، وتريّث مرغوب. لا أحكي عن شواهد عنف في تاريخنا القريب، من باب التخويف وإلغاء الطمأنينة ، بل هو تمرين آمل أن يكون فيه نشدان للصواب، وأوبة لوعي يتناقص، واستشراف حقيقي لأفق تتماسك فيه مكونات الوطن.
الأحد 6 ديسمبر 1964 . ذلك يومٌ أسودٌ قديم ، أتذكر تفاصيله ، باهتة لا تبين في ضباب الذاكرة الآفلة وعصفها الخاسر. شهدت الخرطوم بدايات شتائها والناس على دفء أيام ثورة أكتوبر، لم يمضِ بعد أكثر من شهرين على اندلاعها وانتصارها . ترد أحداثها مثلما ترد الوقائع الخيالية في رواية من روايات الواقعية السحرية.
لكن هاهي الخرطوم في غضبة لا معنى لها ، وكأنها تتمرّد على وجدانها السويّ فتستبدله بلحظاتٍ غاب فيها الوعي، واهتزت معها موازين المنطق، وتفرّق العقل أيدي سبأ. اضطرابات في الطرقات . اشتباكات عنصرية بغيضة . قتلى من أبناء الجنوب بالعشرات. جرحى بالمئات على أبواب المستشفيات . ضحايا الرّعب بالآلاف. صارت \"دار الرياضة\" في أم درمان ملاذهم الآمن، في تلك الليلة المحزنة من ديسمبر عام 1964 . أسمتها الصحافة حوادث \"الأحد الأسود\"، يوم سرت شائعة حول عودة وزير الداخلية \"كليمنت مبورو\" من جولته في جنوب البلاد. كانت ناراً في هشيم الرّيب بين الشمال والجنوب، والتمرد على حاله، والمناوشات مستمرّة والقتال لم يتوقف. أخذت الناس الشكوك فانفجر العنف بلا كوابح.
لعل عكوفي على كتابة مقالٍ للصحيفة ينبغي أن يكون مسبوقاً بمذاكرة تعضّد ما أعرض من تحليل، وما أصل إليه من نتائج ، من معلومات موثقة ومن مصادر يركن إليها ، بما يجعل هذه الكتابة أقرب إلى المسودات الأكاديمية، منها إلى مقالِ رأيٍ مُعجل. وذلك ما أعادني إلى أدبيات قديمة عن حادثة قديمة، وقعتْ قبل ستٍ وأربعين عاما ، ولكني أوقفت اطلاعي على روايتين هامتين عن أحداث ذلك الأحد، جاءتا من رجلين وثيقي الصلة بتاريخ تلك المرحلة. الرجل الأول هو ك.د.د.هندرسون، من موظفي الإدارة البريطانية السابقين في السودان ، والثاني هو السياسي السوداني الأشهر محمد أحمد محجوب، وزير خارجية السودان وقت وقوع حوادث \"الأحد الأسود\".
( 2 )
الرّاوي الأول هو السيد ك.د.د. هندرسون، وقد كان مديراً لمديرية دارفور في سنوات الخمسينات قبل الاستقلال. للرجل اهتمام بتاريخ السودان، وقد أعدّ كتاباً ضافياً، صدر في جزئين مترجماً، بقلم الأديب النابه محمود عثمان صالح، عن مركز عبد الكريم ميرغني . كتب هندرسون كتاباً عن السودان وتطوره السياسية حتى عام 1965 وصدر الكتاب في لندن ذلك العام. عنوان الكتاب هو : جمهورية السودان : في سلسلة\"أمم العالم الجديد\" ، تأليف ك.د.د. هندرسون، دار نشر ارنست بن ليمتد ،لندن 1965 ، وهو الكتاب الذي جاءت فيه روايته عن أحداث ذلك اليوم.
فيما يلي رواية السيد ك.د.د. هندرسون عن أحداث \"الأحد الأسود\"، وقد وردت في صفحة 211 ، أترجمها لك من كتابه المشار إليه :
( كان من المتوقع أن يعود \"كليمنت مبورو\" من جولته في السادس من ديسمبر (1964)، وأن \"جبهة الجنوب\" قد أعدت له استقبالاً حاشداً. عدة آلاف من الجنوبيين معظمهم من العمال، قد احتشدوا في مواكب باتجاه المطار. ما وقع بعد ذلك يظل غامضاً حتى يتم نشر نتائج لجنة التحقيق (جاء في الحاشية أن التحقيق أسفر عن انتفاء أي نية مبيتة لإثارة أيّ شغب). وحسب شاهد عيان فقد احتشد عدد من الجنوبيين بالبار
الملحق بالمطار ، وطالبوا بتزويدهم بخمور زعموا أن الوزير سيسدد قيمتها. وحين شاع خبر تأخر الوزير \"كليمنت مبورو\" في ملكال، حتى يستكمل مباحثاته هناك ، طفق بعض الجنوبيين في إثارة عراك وهم مخمورون واشتبكوا مع موظفي المطار، وتبادلوا السباب معهم. كانت قوة الشرطة التي حضرت لاستقبال الوزير قد غادرت، ولم يكن ثمة مسئول يمثل \"جبهة الجنوب\" في المكان. بعضهم أشاع أنه قد جرى تأخير قدوم الوزير لأمرٍ مبيّت. جرت محاولات للإتصال بالشرطة هاتفياً ولكنها لم تسفر عن نتيجة. وأخيراً، وبعد مشادات في البار وفي المطعم، خرج الجمع إلى الطرقات مشحونين لإثارة شغب غير مسئول. اجتاحوا طرقات العاصمة، وعبروا جسر النيل الأزرق في عنف متزايد وهاجموا السيارات، ورشقوها بالحجارة، وتحرشوا بالشماليين وبالأجانب، واقتحموا حرمة بعض المنازل. أحدهم كان في طريقه باتجاه شارع القصر أشتبك مع جمع حانق خارج سينما كولوزيوم، ثم هاجمه آخرون قادمون من استاد الرياضة . بعضهم لجأ إلى النادي العربي (المصري) والكثيرون احتموا بمبنى مقابل تحتله السفارة الامريكية. إندفع الجمع ووقع اعتداء على رجال الإرسالية، ولكن جرى إخراجهم بواسطة الشرطة وحفظهم في مكان آمن. بعد إخراجهم وخلو المبنى جرى إحراقه بالكامل، ومن بعد استشرت عمليات قنص ومطاردات واسعة. لا يعرف أحد كم عدد الجنوبيين الذي لقوا حتفهم خلال تلك الليلة، وفي صباح الإثنين. أعداد كبيرة جرى إغراقها في النيل، وآخرون جرى اقتناصهم من أمام بوابة المستشفى. قسيس انجيلي أنقذه من بطش المهاجمين، خدمه الشماليون في المنزل الذي يسكنه. ولأن قيادة الشرطة كانت رهن الاعتقال، فقد كانت استجابة الشرطة ضعيفة، ولم تتدخل إلا منتصف نهار يوم الإثنين، حيث عادت الأمور إلى طبيعتها. جرى حصر الجنوبيين بعد ذلك، وتم حفظهم وراء أسوار دار الرياضة في أم درمان، وفي معسكر كيلو 4 على خط السكة الحديدية بمحازاة النيل الأزرق.
وقائع \"الأحد الأسود\" - كما عرفت فيما بعد- لا يمكن وصفها إلّا بالكارثية. إنّ الإتهامات التي سيقت ضد الإرساليات التبشيرية ، لمسلكها التحريضي المناهض تعدّ مثيرة للعجب، إذ هي المرة الأولى بعد سنوات من المعاناة، يكون فيها للإرساليات التبشيرية في الشمال ارتباط بما يجري في كنائس الجنوب. ما جرى في الكونغو، يعكس بكل وضوح مآلات الأمور للمبشرين، فيما إذا نال الجنوب استقلاله . الخسارة ستكون حتماً فادحة.
ما ان هدأت الأحوال، حتى بدأت أعداد من الجنوبيين، خاصة من أبناء الدينكا، في العودة إلى الجنوب، حاملين معهم قصصاً عن مذابح لن تساعد إلّا في اجهاض جهود الحكومة للتسامح في الجنوب. وللمرة الأولى بدأ الشماليون الحديث عن الهجرة من الجنوب، خاصة من جنوب منطقة السدود، وذلك حصد ما زرعت أيديهم. الأجانب المقيمون في العاصمة المثلثة، استهدفهم كذلك، شعورٌ عدائي. حتى الأقباط لم يسلموا من التهديد، فيما يُروى. على كلٍ، قد يأتي الخير بعد الشر . كانت صدمة الرأي العام كبيرة حين اتضحت الحاجة إلى استعادة الأمن من جديد. خرج رجال الشرطة من مخابئهم، واستأنفوا مهمة استتباب الأمن. الجنوبيون الذين تنادوا لنيل الاستقلال، تبينوا أن ما يطلبون قد يؤخذ على محمل الجد.
هدأ الجو تدريجياً. جرى الاحتفال بأعياد الميلاد بلا حوادث ، وكذا الاحتفال بعيد الإستقلال(الأول من يناير). جرى إقناع الطلبة الجنوبيين باستئناف الدراسة في الجامعة. وبرغم أن النزوح إلى الجنوب قد استمر، إلا أن العديد من العمال الجنوبيين عادوا لمزاولة أعمالهم ، (خاصة- فيما يبدو- أولئك المنتمين لقبيلة النوير، وهم قد درجوا على تمييز مواقف تخصّهم دون الآخرين).
كان الظرف أشبه بحال انجلترا بعد رحيل كرومويل ( اضطرابات الحرب الأهلية في انجلترا، وإعدام الملك تشارلز الأول، في سنوات منتصف القرن السابع عشر الميلادي- المترجم ). ملّ الناس حكم الجنرالات، ولكن مالوا مجبرين لاستعادة برلمان صوري مقصوم الظهر، (كان كرومويل قد صرفه إبّان سنوات سطوته- المترجم). نواب وصفوة مدنٍ، عادوا يتناكفون بلا هوادة . كان ثمة قلق يحيط بأهل اسكتلندة. \"الليفلرز\" ( وهم تيار سياسي من مناهضي الملكية- المترجم) وطابور الملكية الخامس، بدوا أكبر من أحجامهم الحقيقية. في آخر الأمر، اجتاح مدٌّ من رأيٍ عام، منحدراً من الأقاليم البعيدة، آخذاً البلاد إلى قدرٍ محتوم.
ذلك ما أمّلتْ الأحزابُ في تحقيقه في السودان: كانوا على ثقة من أن دستوراً على النّسق الأمريكي، لكفيل بتوفير حكومة مستقرّة، بل كانوا أشدّ إصراراً على تجنّب الوقوع في أخطاء الماضي. وهكذا فقد انخرطوا في إعداد أنفسهم لانتخابات تجري في مارس(1965)...)
إنتهت رواية هندرسون هنا ، وقد سعيتُ في ترجمتي هذه الفقرات، ترجمة أمينة ومتواضعة، أن أنقل إليك عزيزي القاريء، شيئاً يقارب كتابة هندرسون وروح لغته العالية، وهو يتناول أحداثاً عاشتها الخرطوم في سنوات الستينات من القرن الماضي. كان الرجل أميناً وصادقاً ومحايداً في رؤيته لما وقع.
( 3 )
الرّواية الثانية عن أحداث \"الأحد الأسود\"، جاءت من السيد محمد أحمد محجوب ، وزير خارجية السودان وقتذاك وقد وردت في كتابه المعنون \"الديمقراطية في الميزان\"، الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر، طبعة ثانية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. وكما هو معروف فإن الكتاب حوى تجربة المحجوب السياسية، وقد كتب بحذق وإن اختزل بعض التفاصيل التي لم تكن ذات أهمية في نظره . خلتْ كتابة المحجوب - إلا من القليل - من انطباعاته واسقاطاته الشخصية، عما كان يدور حوله من جدل ووقائع في السياسة، وعن انطباعاته الحميمة عن الشخصيات السياسية البارزة التي كان لها أثرها على مجريات الأحداث في البلاد .
أورد لك فيما يلي ما جاء في صفحتي 195 و196، من كتاب المحجوب المشار إليه، وهو يصف تلك الأحداث :
( وبعد ذلك وقع ما بات معروفاً في السودان بإسم \"يوم الأحد الأسود\". كان كل شيءٍ هادئاً يوم 6 كانون الأول(ديسمبر) 1964 ،عندما غادرتُ الخرطوم إلى الأمم المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العمومية. لكن لدى وصولي إلى نيويورك أحاط بي الصحافيون في المطار طالبين معلومات عمّا يجري في الخرطوم. وقد سأل أحد الصحافيين: \"ما هي حقيقة الأنباء القائلة إن القسم الأفريقي من الخرطوم يشهد اضطرابات ضد القسم العربي؟\" فقلت ضاحكاً : \" ليس لدينا \"هارلم\" في الخرطوم ولا تمييز عنصري من أيّ نوع.\"
وسأل صحفي آخر: \" لم تسمع الأنباء إذاً؟\" وسألت :\"أي أنباء؟\"، فأبلغوني.
ما حدث هو أن اصطداماً حدث بين جنوبيين ذهبوا لمقابلة \"كليمنت مبورو\" العائد لتوه من جولة لتقصي الحقائق في جنوب السودان ، والشرطة. وقد اتسع النطاق حتى تحول إلى اشتباك بين الجنوبيين والشماليين وقُتل 14 شخصاً وجُرح أكثر من
400 شخص. وكل ما كان بوسعي أن أقوله هو : \"عندما غادرت الخرطوم لم يكن هناك شيء من هذا النوع . ومهما يكن الذي حدث ، فهو لا شيء البتة بالنسبة إلى ليتل روك، أو الاشتباكات العنصرية التي تقع في مختلف أنحاء الولايات المتحدة\" .
وتلقيتُ في وقتٍ لاحقٍ برقية من الخرطوم تتضمن التفاصيل الحقيقية للحادث.وهي أن السلطات سمحت للجنوبيين القيام بمسيرة سلمية إلى المطار لاستقبال كليمنت مبورو. ولكن الطائرة تأخرت، ومع مرور الوقت استحوذ الذعر الذي نشره المحرّضون على الجمهور. وبالنظر إلى خطورة الوضع أمرت الشرطة المتظاهرين بالتفرق والعودة إلى منازلهم. ووقع اشتباك أوّلي وسرعان ما نزل الجنوبيون والشماليون بعضهم إلى بعض فوقعت معارك طاحنة. وأُبلغت بأن الشرطة تسيطر على الوضع مع سلطة تامة باستخدام القوة إذا لزم الأمر، لاعادة الأمن والنظام . واتخذت تدابير صارمة لمنع التظاهرات والمسيرات والتجمعات السياسية.
ولقد كانت هذه فاتحة مؤسفة لعودتي إلى الأمم المتحدة ولكن ما العمل ؟ )
إنتهت رواية الراحل محمد أحمد المحجوب هنا .
يحدثك المحجوب، كما تلاحظ ، بطريقة درامية عن كيفية تلقيه خبر أحداث ذلك اليوم وهو في نيو يورك ، ولكنه لا يحدثك عن الصحفي الذي استفسره، ولا عن خلفية وصول المعلومة إليه من السفارة في نيويورك، أومن كان من بين الدبلوماسيين في السفارة، من وافاه ببرقية رئاسة وزارة الخارجية السودانية عن الموضوع، أو إن كان قد طلب التفاصيل من وزارته أصلاً . ولم يشأ المحجوب أن يفيدنا عمّن وصف ذلك اليوم بأنه يوم \"الأحد الأسود\". ولا نعرف كم عدد القتلى والجرحى في روايته تلك ، فيما لم يتعد عدد أبناء الجنوب في تلك السنوات وعلى أكثر تقدير، سوى عدة آلاف في العاصمة المثلثة. لم تكن الكثير من هذه التفاصيل مما يشغل ذهن المحجوب، ولكن بالقطع تهمّ كتّاب التاريخ والمحللين . كان المحجوب وفي سخريته المعهودة، قد نظر من زاويته، وكأنه يختزل أحداث ذلك اليوم في السودان وفي العاصمة تحديداً، فيشير للصحفيين أن ليس في الخرطوم ما يشبه \"هارلم\" في نيويورك! لكن في واقع الأمر أن أحداث \"الأحد الأسود\"، وحتى من إطلاق هذه الصفة عليها، يعكس سقوط الخرطوم في مجابهات عنصرية بغيضة . ما تريثنا لتدارس الأمر بعمق ، ويكفي أن التاريخ أعاد لنا الحادثة ، وبصورة أكثر اتساعاً، حين سقطت طائرة النائب الأول لرئيس الجمهورية ،
قائد الحركة الشعبية في عام 2005 ، في أحراش يوغندا، وأثارت ريباً وشكوكاً في العاصمة الخرطوم، أشبه بتلك التي ألهبت حوادث \"الأحد الأسود\" الدامية في عام 1964. كان المحجوب فيما روى عن الحوادث ، معنياً بمهمته في الأمم المتحدة وأحزنه أن بداية زيارته قد شابتها أخبار سلبية جرت في عاصمة بلاده. يلاحظ أنه لم
يعبّرعن أسفٍ أو ترحّمٍ، على من فقدوا أرواحهم من مواطني السودان، في تلك الحوادث. في الذي كتبه هندرسون، تكاد تحسّ بتعاطف الرجل- الغريب عن البلاد- مع ضحايا الأحداث، بأكثر مما رشح في رواية المحجوب.
( 4 )
إنّ جولات العنف العنصري المتبادل ، وعلى محدوديتها، بين الشمال والجنوب، تحتاج لوقفات تحليلية تعين الجميع في التعرف على طبيعة نوازعها ومسبباتها، وعمّا إذا كانت نتاج تشوّهات هيكلية حقيقية في \"الشخصية السودانية\"، أم هي محض انفعالات لا تسندها حيثيات أو مبررات . وفيما نحن نقف على أعتاب مرحلة مصيرية في تشكيل علاقات الشمال مع الجنوب ، فإنّ الحاجة لأكثر من ملحّة لقراءة أحداث تاريخنا القريب، قراءة متأنية وموضوعية . يرجّح عدد من المراقبين، الأجانب والغرباء على حدٍ سواء، أنّ عنفاً قد يستشري في أعقاب انفصالٍ متوقع بين الشمال والجنوب، مما يحيلنا إلى أخذ مثل هذه التوقعات بالجديّة المطلوبة ، فنقرأ صفحات تاريخنا القريب والبعيد بعمقٍ وتمعّن، خاصة تلك التي شهدت أحداث عنفٍ متفاوت الدرجات .
على عكس ما روى المحجوب، مهوّناً من تداعيات \"الأحد الأسود\"، نجد في الذي جاء من ك.د.د.هندرسون أعلاه، نظراً ثاقباً وجدية محمودة، فيما روَى عن أحداث ذلك اليوم، في ذلك التاريخ البعيد. فقد ذكر هندرسون، مستصحباً شيئاً من تاريخ بلاده انجلترا، أن رحيل السياسي الانجليزي كرومويل، الذي شهد عهده تغييب الملكية في انجلترا في القرن السابع عشر، شكّل إيذاناً بعودتها بعد اضطرابات واهتزازات، وعودة نظامها البرلماني مقترناً بملكية بصيغة جديدة . لاحظ الرّجل كيف تطلع السياسيون- وجراح الخرطوم طرية بعد أحداث \"الأحد الأسود\"- لتنظيم انتخابات عاجلة، ولصياغة دستور حسبوا أنه سيأخذ البلاد إلى عتبات استقرار منشود. ذلك بالطبع لم يحدث، إذ وقعتْ بعد عام 1965، إضطرابات أشد، وتحالفات ضعيفة، وتغولات على ديمقراطية هشّة ، تمثلت في طرد نواب من البرلمان وتمّ ذلك - وياللأسف- بتواطؤ سياسيين وقانونيين كبار. في نهاية الأمر، وقع انقلاب مايو
العسكري عام 1969 ، ودارت عجلة التاريخ في دورة جديدة.
====
والآن يأخذ التاريخ دورته، ونحن نعالج مصائر البلاد، وهي على شفا التشظي. لا يدري أحد ، إذ ربما التأم شقا البلاد من جديد، فيما ظنّ البعض أنّ الشتيتين لن يلتقيا .
حمى الله الوطن ، وحفظ تماسكه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.