الاجتماع التقليدي الفني: الهلال باللون باللون الأزرق، و جاموس باللون الأحمر الكامل    يا ريجي جر الخمسين وأسعد هلال الملايين    الشعبية كسلا تكسب الثنائي مسامح وابو قيد    وجمعة ود فور    مراقد الشهداء    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    كامل إدريس يدشن أعمال اللجنة الوطنية لفك حصار الفاشر    مخاوف من فقدان آلاف الأطفال السودانيين في ليبيا فرض التعليم بسبب الإقامة    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالصور.. المودل السودانية الحسناء هديل إسماعيل تعود لإثارة الجدل وتستعرض جمالها بإطلالة مثيرة وملفتة وساخرون: (عاوزة تورينا الشعر ولا حاجة تانية)    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ثنَايا يَوْمٍ أسْوَد قَديْم: خِطابٌ إلى العُقَلاء .. بقلم: جمال محمد ابراهيم
نشر في سودانيل يوم 27 - 12 - 2010

هذا خطاب للعقلاء في الوطن المترامي الأطراف، قبيل تساقط بعضها جراء اقتراع على خيارين ، أقربهما إلى الواقع هو الانفصال بدم بارد. الخيار الأبعد هو الوحدة، وقد صار من يلاحقها كمن يلاحق عنقاء في سماء الأحلام . فيما يرجح المراقبون أن البلاد مقدمة على عواصف تنازع مخيف، و"سوانيم" عنف مطبق، تبقى برغم ذلك مساحات متوفرة لتعقل مطلوب، وتريّث مرغوب. لا أحكي عن شواهد عنف في تاريخنا القريب، من باب التخويف والغاء الطمأنينة ، بل هو تمرين آمل أن يكون فيه نشدان للصواب، وأوبة لوعي يتناقص، واستشراف حقيقي لأفق تتماسك فيه مكونات الوطن.
الأحد 6 ديسمبر 1964 . ذلك يومٌ أسودٌ قديم ، أتذكر تفاصيله ، باهتة لا تبين في ضباب الذاكرة الآفلة وعصفها الخاسر. شهدت الخرطوم بدايات شتائها والناس على دفء أيام ثورة أكتوبر، لم يمضِ بعد أكثر من شهرين على اندلاعها وانتصارها . ترد أحداثها مثلما ترد الوقائع الخيالية في رواية من روايات الواقعية السحرية.
لكن هاهي الخرطوم في غضبة لا معنى لها ، وكأنها تتمرّد على وجدانها السويّ فتستبدله بلحظاتٍ غاب فيها الوعي، واهتزت معها موازين المنطق، وتفرّق العقل أيدي سبأ. اضطرابات في الطرقات . اشتباكات عنصرية بغيضة . قتلى من أبناء الجنوب بالعشرات. جرحى بالمئات على أبواب المستشفيات . ضحايا الرّعب بالآلاف. صارت "دار الرياضة" في أم درمان ملاذهم الآمن، في تلك الليلة المحزنة من ديسمبر عام 1964 . أسمتها الصحافة حوادث "الأحد الأسود"، يوم سرت شائعة حول عودة وزير الداخلية "كليمنت مبورو" من جولته في جنوب البلاد. كانت ناراً في هشيم الرّيب بين الشمال والجنوب، والتمرد على حاله، والمناوشات مستمرّة والقتال لم يتوقف. أخذت الناس الشكوك فانفجر العنف بلا كوابح.
لعل عكوفي على كتابة مقالٍ للصحيفة ينبغي أن يكون مسبوقاً بمذاكرة تعضّد ما أعرض من تحليل، وما أصل إليه من نتائج ، من معلومات موثقة ومن مصادر يركن إليها ، بما يجعل هذه الكتابة أقرب إلى المسودات الأكاديمية، منها إلى مقالِ رأيٍ مُعجل. وذلك ما أعادني إلى أدبيات قديمة عن حادثة قديمة، وقعتْ قبل ستٍ وأربعين عاما ، ولكني أوقفت اطلاعي على روايتين هامتين عن أحداث ذلك الأحد، جاءتا من رجلين وثيقي الصلة بتاريخ تلك المرحلة. الرجل الأول هو ك.د.د.هندرسون، من موظفي الإدارة البريطانية السابقين في السودان ، والثاني هو السياسي السوداني الأشهر محمد أحمد محجوب، وزير خارجية السودان وقت وقوع حوادث "الأحد الأسود".
( 2 )
الرّاوي الأول هو السيد ك.د.د. هندرسون، وقد كان مديراً لمديرية دارفور في سنوات الخمسينات قبل الاستقلال. للرجل اهتمام بتاريخ السودان، وقد أعدّ كتاباً ضافياً، صدر في جزئين مترجماً، بقلم الأديب النابه محمود عثمان صالح، عن مركز عبد الكريم ميرغني . كتب هندرسون كتاباً عن السودان وتطوره السياسية حتى عام 1965 وصدر الكتاب في لندن ذلك العام. عنوان الكتاب هو : جمهورية السودان : في سلسلة"أمم العالم الجديد" ، تأليف ك.د.د. هندرسون، دار نشر ارنست بن ليمتد ،لندن 1965 ، وهو الكتاب الذي جاءت فيه روايته عن أحداث ذلك اليوم.
فيما يلي رواية السيد ك.د.د. هندرسون عن أحداث "الأحد الأسود"، وقد وردت في صفحة 211 ، أترجمها لك من كتابه المشار إليه :
( كان من المتوقع أن يعود "كليمنت مبورو" من جولته في السادس من ديسمبر (1964)، وأن "جبهة الجنوب" قد أعدت له استقبالاً حاشداً. عدة آلاف من الجنوبيين معظمهم من العمال ، قد احتشدوا في مواكب باتجاه المطار. ما وقع بعد ذلك يظل غامضاً حتى يتم نشر نتائج لجنة التحقيق (جاء في الحاشية أن التحقيق أسفر عن انتفاء أي نية مبيتة لإثارة أيّ شغب). وحسب شاهد عيان فقد احتشد عدد من الجنوبيين بالبار
الملحق بالمطار ، وطالبوا بتزويدهم بخمور زعموا أن الوزير سيسدد قيمتها. وحين شاع خبر تأخر الوزير "كليمنت مبورو" في ملكال، حتى يستكمل مباحثاته هناك ، طفق بعض الجنوبيين في إثارة عراك وهم مخمورون واشتبكوا مع موظفي المطار، وتبادلوا السباب معهم. كانت قوة الشرطة التي حضرت لاستقبال الوزير قد غادرت، ولم يكن ثمة مسئول يمثل "جبهة الجنوب" في المكان. بعضهم أشاع أنه قد جرى تأخير قدوم الوزير لأمرٍ مبيّت. جرت محاولات للإتصال بالشرطة هاتفياً ولكنها لم تسفر عن نتيجة. وأخيراً، وبعد مشادات في البار وفي المطعم، خرج الجمع إلى الطرقات مشحونين لإثارة شغب غير مسئول. اجتاحوا طرقات العاصمة، وعبروا جسر النيل الأزرق في عنف متزايد وهاجموا السيارات، ورشقوها بالحجارة، وتحرشوا بالشماليين وبالأجانب ، واقتحموا حرمة بعض المنازل. أحدهم كان في طريقه باتجاه شارع القصر أشتبك مع جمع حانق خارج سينما كولوزيوم، ثم هاجمه آخرون قادمون من استاد الرياضة . بعضهم لجأ إلى النادي العربي (المصري) والكثيرون احتموا بمبنى مقابل تحتله السفارة الامريكية. إندفع الجمع ووقع اعتداء على رجال الإرسالية، ولكن جرى إخراجهم بواسطة الشرطة وحفظهم في مكان آمن. بعد إخراجهم وخلو المبنى جرى إحراقه بالكامل، ومن بعد استشرت عمليات قنص ومطاردات واسعة. لا يعرف أحد كم عدد الجنوبيين الذي لقوا حتفهم خلال تلك الليلة، وفي صباح الإثنين. أعداد كبيرة جرى إغراقها في النيل، وآخرون جرى اقتناصهم من أمام بوابة المستشفى. قسيس انجيلي أنقذه من بطش المهاجمين، خدمه الشماليون في المنزل الذي يسكنه. ولأن قيادة الشرطة كانت رهن الاعتقال، فقد كانت استجابة الشرطة ضعيفة، ولم تتدخل إلا منتصف نهار يوم الإثنين، حيث عادت الأمور إلى طبيعتها. جرى حصر الجنوبيين بعد ذلك، وتم حفظهم وراء أسوار دار الرياضة في أم درمان، وفي معسكر كيلو 4 على خط السكة الحديدية بمحازاة النيل الأزرق.
وقائع "الأحد الأسود" - كما عرفت فيما بعد- لا يمكن وصفها إلّا بالكارثية. إنّ الإتهامات التي سيقت ضد الإرساليات التبشيرية ، لمسلكها التحريضي المناهض تعدّ مثيرة للعجب، إذ هي المرة الأولى بعد سنوات من المعاناة، يكون فيها للإرساليات التبشيرية في الشمال ارتباط بما يجري في كنائس الجنوب. ما جرى في الكونغو، يعكس بكل وضوح مآلات الأمور للمبشرين، فيما إذا نال الجنوب استقلاله . الخسارة ستكون حتماً فادحة .
ما ان هدأت الأحوال، حتى بدأت أعداد من الجنوبيين، خاصة من أبناء الدينكا، في العودة إلى الجنوب، حاملين معهم قصصاً عن مذابح لن تساعد إلّا في اجهاض جهود الحكومة للتسامح في الجنوب. وللمرة الأولى بدأ الشماليون الحديث عن الهجرة من الجنوب، خاصة من جنوب منطقة السدود، وذلك حصد ما زرعت أيديهم. الأجانب المقيمون في العاصمة المثلثة، استهدفهم كذلك، شعورٌ عدائي. حتى الأقباط لم يسلموا من التهديد، فيما يُروى. على كلٍ، قد يأتي الخير بعد الشر . كانت صدمة الرأي العام كبيرة حين اتضحت الحاجة إلى استعادة الأمن من جديد. خرج رجال الشرطة من مخابئهم، واستأنفوا مهمة استتباب الأمن. الجنوبيون الذين تنادوا لنيل الاستقلال، تبينوا أن ما يطلبون قد يؤخذ على محمل الجد.
هدأ الجو تدريجياً. جرى الاحتفال بأعياد الميلاد بلا حوادث ، وكذا الاحتفال بعيد الإستقلال(الأول من يناير). جرى إقناع الطلبة الجنوبيين باستئناف الدراسة في الجامعة. وبرغم أن النزوح إلى الجنوب قد استمر، إلا أن العديد من العمال الجنوبيين عادوا لمزاولة أعمالهم ، (خاصة- فيما يبدو- أولئك المنتمين لقبيلة النوير، وهم قد درجوا على تمييز مواقف تخصّهم دون الآخرين).
كان الظرف أشبه بحال انجلترا بعد رحيل كرومويل ( اضطرابات الحرب الأهلية في انجلترا، وإعدام الملك تشارلز الأول، في سنوات منتصف القرن السابع عشر الميلادي- المترجم ). ملّ الناس حكم الجنرالات، ولكن مالوا مجبرين لاستعادة برلمان صوري مقصوم الظهر، (كان كرومويل قد صرفه إبّان سنوات سطوته- المترجم). نواب وصفوة مدنٍ، عادوا يتناكفون بلا هوادة . كان ثمة قلق يحيط بأهل اسكتلندة. "الليفلرز" ( وهم تيار سياسي من مناهضي الملكية- المترجم) وطابور الملكية الخامس، بدوا أكبر من أحجامهم الحقيقية. في آخر الأمر، اجتاح مدٌّ من رأيٍ عام، منحدراً من الأقاليم البعيدة، آخذاً البلاد إلى قدرٍ محتوم.
ذلك ما أمّلتْ الأحزابُ في تحقيقه في السودان : كانوا على ثقة من أن دستوراً على النّسق الأمريكي، لكفيل بتوفير حكومة مستقرّة، بل كانوا أشدّ إصراراً على تجنّب الوقوع في أخطاء الماضي. وهكذا فقد انخرطوا في إعداد أنفسهم لانتخابات تجري في مارس(1965)...)
إنتهت رواية هندرسون هنا ، وقد سعيتُ في ترجمتي هذه الفقرات، ترجمة أمينة ومتواضعة، أن أنقل إليك عزيزي القاريء، شيئاً يقارب كتابة هندرسون وروح لغته العالية، وهو يتناول أحداثاً عاشتها الخرطوم في سنوات الستينات من القرن الماضي. كان الرجل أميناً وصادقاً ومحايداً في رؤيته لما وقع.
( 3 )
الرّواية الثانية عن أحداث "الأحد الأسود"، جاءت من السيد محمد أحمد محجوب ، وزير خارجية السودان وقتذاك وقد وردت في كتابه المعنون "الديمقراطية في الميزان"، الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر، طبعة ثانية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. وكما هو معروف فإن الكتاب حوى تجربة المحجوب السياسية، وقد كتب بحذق وإن اختزل بعض التفاصيل التي لم تكن ذات أهمية في نظره . خلتْ كتابة المحجوب - إلا من القليل - من انطباعاته واسقاطاته الشخصية، عما كان يدور حوله من جدل ووقائع في السياسة، وعن انطباعاته الحميمة عن الشخصيات السياسية البارزة التي كان لها أثرها على مجريات الأحداث في البلاد .
أورد لك فيما يلي ما جاء في صفحتي 195 و196، من كتاب المحجوب المشار إليه، وهو يصف تلك الأحداث :
( وبعد ذلك وقع ما بات معروفاً في السودان بإسم "يوم الأحد الأسود". كان كل شيءٍ هادئاً يوم 6 كانون الأول(ديسمبر) 1964 ،عندما غادرتُ الخرطوم إلى الأمم المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العمومية. لكن لدى وصولي إلى نيويورك أحاط بي الصحافيون في المطار طالبين معلومات عمّا يجري في الخرطوم. وقد سأل أحد الصحافيين: "ما هي حقيقة الأنباء القائلة إن القسم الأفريقي من الخرطوم يشهد اضطرابات ضد القسم العربي؟" فقلت ضاحكاً : " ليس لدينا "هارلم" في الخرطوم ولا تمييز عنصري من أيّ نوع."
وسأل صحفي آخر: " لم تسمع الأنباء إذاً؟" وسألت :"أي أنباء؟"، فأبلغوني.
ما حدث هو أن اصطداماً حدث بين جنوبيين ذهبوا لمقابلة "كليمنت مبورو" العائد لتوه من جولة لتقصي الحقائق في جنوب السودان ، والشرطة. وقد اتسع النطاق حتى تحول إلى اشتباك بين الجنوبيين والشماليين وقُتل 14 شخصاً وجُرح أكثر من
400 شخص. وكل ما كان بوسعي أن أقوله هو : "عندما غادرت الخرطوم لم يكن هناك شيء من هذا النوع . ومهما يكن الذي حدث ، فهو لا شيء البتة بالنسبة إلى ليتل روك، أو الاشتباكات العنصرية التي تقع في مختلف أنحاء الولايات المتحدة" .
وتلقيتُ في وقتٍ لاحقٍ برقية من الخرطوم تتضمن التفاصيل الحقيقية للحادث.وهي أن السلطات سمحت للجنوبيين القيام بمسيرة سلمية إلى المطار لاستقبال كليمنت مبورو. ولكن الطائرة تأخرت، ومع مرور الوقت استحوذ الذعر الذي نشره المحرّضون على الجمهور. وبالنظر إلى خطورة الوضع أمرت الشرطة المتظاهرين بالتفرق والعودة إلى منازلهم. ووقع اشتباك أوّلي وسرعان ما نزل الجنوبيون والشماليون بعضهم إلى بعض فوقعت معارك طاحنة. وأُبلغت بأن الشرطة تسيطر على الوضع مع سلطة تامة باستخدام القوة إذا لزم الأمر، لاعادة الأمن والنظام . واتخذت تدابير صارمة لمنع التظاهرات والمسيرات والتجمعات السياسية.
ولقد كانت هذه فاتحة مؤسفة لعودتي إلى الأمم المتحدة ولكن ما العمل ؟ )
إنتهت رواية الراحل محمد أحمد المحجوب هنا .
يحدثك المحجوب، كما تلاحظ ، بطريقة درامية عن كيفية تلقيه خبر أحداث ذلك اليوم وهو في نيو يورك ، ولكنه لا يحدثك عن الصحفي الذي استفسره، ولا عن خلفية وصول المعلومة إليه من السفارة في نيويورك، أومن كان من بين الدبلوماسيين في السفارة، من وافاه ببرقية رئاسة وزارة الخارجية السودانية عن الموضوع، أو إن كان قد طلب التفاصيل من وزارته أصلاً . ولم يشأ المحجوب أن يفيدنا عمّن وصف ذلك اليوم بأنه يوم "الأحد الأسود". ولا نعرف كم عدد القتلى والجرحى في روايته تلك ، فيما لم يتعد عدد أبناء الجنوب في تلك السنوات وعلى أكثر تقدير، سوى عدة آلاف في العاصمة المثلثة. لم تكن الكثير من هذه التفاصيل مما يشغل ذهن المحجوب، ولكن بالقطع تهمّ كتّاب التاريخ والمحللين . كان المحجوب وفي سخريته المعهودة، قد نظر من زاويته، وكأنه يختزل أحداث ذلك اليوم في السودان وفي العاصمة تحديداً، فيشير للصحفيين أن ليس في الخرطوم ما يشبه "هارلم" في نيويورك! لكن في واقع الأمر أن أحداث "الأحد الأسود"، وحتى من إطلاق هذه الصفة عليها، يعكس سقوط الخرطوم في مجابهات عنصرية بغيضة . ما تريثنا لتدارس الأمر بعمق ، ويكفي أن التاريخ أعاد لنا الحادثة ، وبصورة أكثر اتساعاً، حين سقطت طائرة النائب الأول لرئيس الجمهورية ،
قائد الحركة الشعبية في عام 2005 ، في أحراش يوغندا، وأثارت ريباً وشكوكاً في العاصمة الخرطوم، أشبه بتلك التي ألهبت حوادث "الأحد الأسود" الدامية في عام 1964. كان المحجوب فيما روى عن الحوادث ، معنياً بمهمته في الأمم المتحدة وأحزنه أن بداية زيارته قد شابتها أخبار سلبية جرت في عاصمة بلاده. يلاحظ أنه لم
يعبّرعن أسفٍ أو ترحّمٍ، على من فقدوا أرواحهم من مواطني السودان، في تلك الحوادث. في الذي كتبه هندرسون، تكاد تحسّ بتعاطف الرجل- الغريب عن البلاد- مع ضحايا الأحداث، بأكثر مما رشح في رواية المحجوب.
( 4 )
إنّ جولات العنف العنصري المتبادل ، وعلى محدوديتها، بين الشمال والجنوب، تحتاج لوقفات تحليلية تعين الجميع في التعرف على طبيعة نوازعها ومسبباتها، وعمّا إذا كانت نتاج تشوّهات هيكلية حقيقية في "الشخصية السودانية"، أم هي محض انفعالات لا تسندها حيثيات أو مبررات . وفيما نحن نقف على أعتاب مرحلة مصيرية في تشكيل علاقات الشمال مع الجنوب ، فإنّ الحاجة لأكثر من ملحّة لقراءة أحداث تاريخنا القريب، قراءة متأنية وموضوعية . يرجّح عدد من المراقبين، الأجانب والغرباء على حدٍ سواء، أنّ عنفاً قد يستشري في أعقاب انفصالٍ متوقع بين الشمال والجنوب، مما يحيلنا إلى أخذ مثل هذه التوقعات بالجديّة المطلوبة ، فنقرأ صفحات تاريخنا القريب والبعيد بعمقٍ وتمعّن، خاصة تلك التي شهدت أحداث عنفٍ متفاوت الدرجات .
على عكس ما روى المحجوب، مهوّناً من تداعيات "الأحد الأسود"، نجد في الذي جاء من ك.د.د.هندرسون أعلاه، نظراً ثاقباً وجدية محمودة، فيما روَى عن أحداث ذلك اليوم، في ذلك التاريخ البعيد. فقد ذكر هندرسون، مستصحباً شيئاً من تاريخ بلاده انجلترا، أن رحيل السياسي الانجليزي كرومويل، الذي شهد عهده تغييب الملكية في انجلترا في القرن السابع عشر، شكّل إيذاناً بعودتها بعد اضطرابات واهتزازات، وعودة نظامها البرلماني مقترناً بملكية بصيغة جديدة . لاحظ الرّجل كيف تطلع السياسيون- وجراح الخرطوم طرية بعد أحداث "الأحد الأسود"- لتنظيم انتخابات عاجلة، ولصياغة دستور حسبوا أنه سيأخذ البلاد إلى عتبات استقرار منشود. ذلك بالطبع لم يحدث، إذ وقعتْ بعد عام 1965، إضطرابات أشد، وتحالفات ضعيفة، وتغولات على ديمقراطية هشّة ، تمثلت في طرد نواب من البرلمان وتمّ ذلك - وياللأسف- بتواطؤ سياسيين وقانونيين كبار. في نهاية الأمر، وقع انقلاب مايو
العسكري عام 1969 ، ودارت عجلة التاريخ في دورة جديدة.
والآن يأخذ التاريخ دورته، ونحن نعالج مصائر البلاد، وهي على شفا التشظي. لا يدري أحد ، إذ ربما التأم شقا البلاد من جديد، فيما ظنّ البعض أنّ الشتيتين لن يلتقيا . حمى الله الوطن ، وحفظ تماسكه.
الخرطوم – 24 ديسمبر2010
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.