الرأي23 المشهد في جوبا قبيل الاستفتاء أ.د.الطيب زين العابدين في طريقنا من فندق جوبا بريدج إلى المطار عند الساعة التاسعة والنصف من صباح الجمعة «7/1/2011» كانت ساعة العد التنازلي الضخمة لموعد الاستفتاء في وسط المدينة تشير إلى أن ما تبقى هو يوم واحد أو 39 ساعة أو 2352 دقيقة. ولا يخفى أن فكرة تركيب ساعة رقمية ضخمة تشير إلى اليوم والساعة والدقيقة لما تبقى من موعد الاستفتاء تدل على تعجل حكومة الجنوب لمجئ يوم الانفصال أو الاستقلال، وقد ظهر ذلك منذ التفاوض في نيفاشا على مدة الفترة الانتقالية التي كانت الحركة الشعبية تريدها سنتين فقط. ضمت مجموعتنا، التي أرسلت من قبل اللجنة الإعلامية العليا التابعة لمفوضية استفتاء جنوب السودان، الأسماء التالية: ب أكولدا ماتير «جامعة الخرطوم»، د أبيندقو أكوك «جامعة جوبا»، ب الطيب زين العابدين «جامعة الخرطوم»، العميد أمن «م» حسن بيومي، الأستاذ جورج ماكير «المفوضية»، الأستاذة علوية مختار «الصحافة». كانت زيارة المجموعة إلى جوبا بهدف تنظيم نشاط إعلامي استيفاء لبعض بنود قانون الاستفتاء التي تتطلب قيام المفوضية بتعيين لجنة إعلامية مستقلة ومحايدة تقوم بحملة إعلامية لتوعية وتعريف الشعب السوداني عامة وجنوب السودان خاصة عن إجراءات الاستفتاء، وتشرف على أن وسائل الإعلام المملوكة للدولة قد قامت بواجبها في معاملة المجموعات والأفراد من دعاة خياري الاستفتاء «الوحدة أو الانفصال» بالإنصاف والتساوي في إتاحة الفرص والمدة المتاحة كخدمة مجانية. وبما أن الزمن المتبقي للاستفتاء كان قصيراً للغاية فقد تم الاتفاق على إقامة مناظرتين في جوبا عن الوحدة والانفصال بين الحزبين الرئيسيين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بالإضافة إلى ورشة عمل لتدريب الإعلاميين على تغطية عملية الاستفتاء. ولكن أدت زيارة الرئيس البشير المفاجئة إلى جوبا يوم الثلاثاء «4/1» إلى إلغاء المناظرة الأولى التي كانت ستقام في نفس اليوم تحت عنوان: خياري الوحدة والانفصال، القضايا العالقة، مستقبل العلاقة بين الشمال والجنوب، فقد شغل معظم المسؤولين في الحكومة بتلك الزيارة التي كان لها وقع طيب في تهدئة النفوس وتطمينها بأن الشمال سيقبل اختيار الانفصال ولو كان مراً. وتحولت المناظرة الثانية التي أقيمت يوم الأربعاء من مناظرة عن البترول والأمن إلى ندوة بين خبيرين هما جون لوك وزير الشئون القانونية في حكومة الجنوب والذي كان وزيراً للبترول قبل الانتخابات والعميد أمن حسن بيومي. وقامت ورشة العمل للإعلاميين التي شاركت في تنظيمها بكفاءة عالية مفوضية الاتحاد الأوربي في وقتها المحدد نهار الخميس، وكانت ناجحة من حيث التنظيم والحضور وفقرات البرنامج، وساهم مكتب المفوضية في جوبا برئاسة القاضي المحنك شان ريك في إنجاح البرنامج الإعلامي رغم مشغوليتهم الشديدة بمتابعة إجراءات الاستفتاء في كل أنحاء الجنوب والذي يضم حوالي 95% من المقترعين في الاستفتاء. وقد شاركت الحركة الشعبية بالحضور والحديث في كل فقرات النشاط الإعلامي الذي نظمته المفوضية في الخرطوموجوبا ولكن المؤتمر الوطني كان متغيباً في العاصمتين، فقد دعونا تسعة من قيادات المؤتمر الوطني للمشاركة في مناظرات الخرطوموجوبا فلم يستجب بعضهم واعتذر آخرون في اللحظات الأخيرة وتغيبت فئة ثالثة دون إخطارنا بعذر! وكانت المساهمة الوحيدة من وجه جديد في الساحة السياسية هو الدكتور بكري عثمان سعيد «أحد القادمين الجدد من المملكة المتحدة» الذي شارك مع الوزير لوكا بيونق في مناظرة محضورة بقاعة الصداقة في 29/12 ، وأحسب ذلك علامة يأس واضطراب من الحزب الحاكم حيال مسألة الوحدة كما يدل على قدر من عدم الانضباط والشعور بالمسؤولية إزاء أهم قضية سياسية تواجه البلاد. شهد عدد مقدر من الصحفيين والإعلاميين الندوة الأولى وورشة العمل خاصة من الفضائيات والصحف الأجنبية، وتزدحم جوبا هذه الأيام بالمراقبين والإعلاميين الذين توافدوا من كل حدب وصوب ليشهدوا تجربة انفصال نادرة في إفريقيا. وقد أحسن مكتب المفوضية في جوبا التعامل معهم وتسهيل مهمتهم، ولكن أظن أن بعضهم شعر بخيبة أمل لأن مباراة الاستفتاء لن تكون ساخنة كما توقع فقد حسمت نتيجتها قبل صافرة البداية وتقديري، إن كانت جوبا مقياساً للتصويت، سيفوز خيار الانفصال بنسبة تزيد على التسعين في المئة، فلا تكاد تجد شخصاً واحداً يدافع لك عن الوحدة مع الشمال. وفي الندوة الأولى التي شهدها جمهور قليل ولكنه نوعي هاجم فيها إدوارد لينو القيادي بالحركة الشعبية الشماليين قاطبة منذ اتفاقية البقط بين مصر ومملكة النوبة قبل ألف وأربعمائة سنة وحتى اليوم ولا أدري لماذا لم يبدأ من الأسر الفرعونية قبل الميلاد! وقد سجل تلفزيون وإذاعة جوبا الندوة كاملة لبثها في اليوم الثاني، وكما هو متوقع فإن الشباب كانوا الأكثر حماسة للانفصال والأكثر مشاركة في الندوات بالأسئلة والتعليقات التي تشتم منها ضغينة ضد الشمال، وهم الذين يجوبون الشوارع من وقت لآخر يرتدون شعارات الانفصال ويهتفون لها. ويبدو لي أن التعبئة الجماهيرية التي قامت بها الحركة الشعبية أيام الحرب الأهلية ضد حكومات الشمال والمشاكسة المستمرة بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني منذ بداية تنفيذ اتفاقية السلام الشامل هي المسؤولة عن حالة الاحتقان والانفعال الراهنة التي لا تملك الحركة تغييرها حتى لو أرادت. وأحسب أن ذلك أمراً طبيعياً عند ولادة دولة جديدة في إقليم خاض حرباً أهلية استمرت لعشرات السنين، ولكن بعد سنة أو اثنتين سيتوارى «العدو الشمالي» عن الأنظار وعن المشاعر المحتقنة لتطفو على السطح مشاكل داخلية تتعلق بحياة الناس وأمنهم ورفاهيتهم ومنافسات سياسية محلية والتي بدأت في الظهور بحجم متواضع. وسيكون الشباب أول من ينتقل من مرحلة المواجهة مع الشمال إلى مرحلة مواجهة المشكلات الداخلية لأنها تمثل حاضرهم ومستقبلهم. وقد أظهرت حكومة الجنوب حتى الآن قدراً من الحكمة السياسية في التعامل مع السلاطين القبليين والسياسيين المعارضين والقادة المتمردين كما يدل على ذلك الاتفاق الأخير الذي عقدته مع القائد المتمرد جورج أتور في ولاية جونقلي. ولا تدل تجربة الماضي القريب والبعيد أن المؤتمر الوطني سيظهر نفس القدر من الحكمة في التعامل مع أحزاب المعارضة التي تعجلت إعلان نيتها بإسقاط النظام دون أن تعد لذلك عدة تذكر. الصحافة