الكلام دخل الحوش(4) البشير: رجل دين أم رجل دولة؟؟ إبراهيم الكرسني [email protected] شاهدت و سمعت فى الآونة الأخيرة الكثير من أحاديث البشير التى يرسلها على عواهنها، وعلى الهواء مباشرة، وسط المسيرات \"المليونية\" التى يحشدها له سدنته من المنافقين و حارقى البخور، ليرقص بعدها على أغانى السيرة و الحماسة مدفوعة الأجر، شعرا و لحنا و أداءا. كنت أعتقد دوما بأن الرجل ربما تأخذه \"جعليته\"، و هو فى حالة \"حضرة\" تتملكه عندما \"يعرض\" على صوت تلك الدفوف، ليقول ما يقول من هراء و \"فارغ\" القول، من فرط الحماسة. و كنت دائما ما أجد له العذر، رغم صعوبة ذلك، مقتنعا بأن تلك الأغانى الحماسية ربما \"حرشته\" على أعدائه أكثر من اللازم. وقديما قال أهلنا الطيبين،\"المحرش كتل أمو\"!! إذا كان ذلك كذلك فما هو المانع من قول هذا الرجل مثل هذا الهراء؟ و كنت فى الوقت ذاته أعتقد بأن الرجل يمتلك الحصافة اللازمة التى تؤهله ليتحدث حديث رجل الدولة حينما يكون \"فارغا\" من تلك الشحنات الحماسية. لكن لقد خاب فألى، وخيب الرجل ظنى مساء الجمعة الماضى. أحمد الله كثيرا أن قيض لى أن أستمع الى الرجل وهو غارق فى \"حضرته\" تلك عند إفتتاحه لكبرى الحلفاية-أم درمان، و أستمع اليه و هو فى حالة إتزان وهدوء، أو هكذا خيل لي، وهو يتحدث فى لقاء خاص لقناة الجزيرة الفضائية. لم يفصل بين هذين الحدثين سوى سويعات قليلة مساء ذلك الجمعة الحزين الموافق السابع من يناير الجارى. لم يختلف حديث الرجل عند إفتتاحه لكبرى الحلفاية عن ذلك الهراء الذى ظل يطلقه على الهواء مباشرة دون مراعاة لما يمثله من مقام، كرأس للدولة، أو لمستمعيه من أهل البلد بكل أطيافها، أو مشاهديه عبر الفضائيات فى مختلف بقاع العالم. لقد ظل يرغى ويزبد فى كثير من صغائر الأمور. و كعادته واصل نهجه فى تهديد السودانيين بما ينتظرهم حينما يحين وقت تطبيق النسخة الثانية من كارثة الإنقاذ عند إنفصال الجنوب. أكثر ما يحير فى ذلك التهديد و الوعيد الذى بدى يهذى به هذا الرجل فى الآونة الأخيرة، هو حديثه عن تطبيق الشريعة، و التى دوما ما يختصرها، كعادة كل الجهلاء و تجار الدين، فى تطبيق الحدود. يبدو من هذا الهذيان أن الرجل قد وصل بالفعل الى مستوى من الإفلاس السياسي و الأخلاقى لم يعد عنده ما يقدمه لهذا الشعب الأبي غير هذا التهديد و الوعيد. كان كل هذا سيكون مفهوما لو كان مبرر \"التهديد\" بتطبيق\"شرع الله\" هو خشية هذا الرجل من الله، أو خشوعه له، أو رهبة من العزيز الجبار يود أن يكفر بها ما إغترفت يداه من جرائم فى حق الشعب و الوطن. لكن الرجل لم يترك لنا مجرد مساحة صغيرة لنحسن الظن به، و ما هو مبتغاه الديني من وراء ذلك التهديد و الوعيد. فقد قالها ب\"عضمة\" لسانه. ولكم أن تتخيلوا المبرر الذى ساقه لتطبيق \"شرع الله\". لقد قالها، هكذا: \"مش الشريعة القادة كبدن دي حنطبقا\"، ثم أردف مواصلا تهديده، \"سنجلد، ونقطع، ونصلب...ده كلو حنسويهو\". نعم إنه سيقطع، و يجلد، و يصلب، ليس تقربا لله، أو ورعا وخوفا منه، و إنما سيرتكب كل هذه الجرائم و الآثام فقط ليغيظ بها أعداؤه، وكأنما الشعب السودانى قد أضحى حقل تجارب ليفرغ من خلاله أحقاده الشخصية على البشرية جمعاء. ألم أقل لكم، فى مقال سابق، بأن المكان الملائم لهذا الرجل هو مشافى الأمراض النفسية و العقلية، و ليس ردهات الحكم و مواقع المسؤولية!! ثم جاء اللقاء الخاص الكارثة بقناة الجزيرة الفضائية، بعد هذا الحديث الفج بسويعات قليلة. لم أكن أود الإستماع اليه فى بادئ الأمر، لأن مشاهدة هذا النوع من الأفلام المرعبة مرتين فى اليوم الواحد سيكون سببا كافيا لأن تصاب بالجنون، هذا إن لم يذهب بك مباشرة الى \"ود اللحد\". لكننى نازعت نفسى كثيرا و أجبرتها على المشاهدة. كنت متعشما أن أرى هذا الرجل وهو يتحدث كرجل دولة فى قناة فضائية محترمة، بعيدا عن إنفعال \"الدلوكة\" و \"جعلية\" أغانى السيرة و الحماسة. لكن خاب فألى و ليتني لم أستمع له. لقد قال الرجل حديثا أسوأ مما قاله فى \"ساحات الفداء\" بمدينتي القضارف و الحلفاية. أقر الرجل بأنه سوف يطبق الشريعة كاملة الدسم حال إنفصال الجنوب.ثُم أردف قائلا نفس الكلام الغث عن الرجم، و الجلد، و الصلب، و القطع من خلاف. لكن ما لم يكن لإنسان عاقل أن يتصوره هو دفاع هذا الرجل المستميت عن جلد فتاة \"اليو تيوب\". لقد إندهش هذا الرجل من \"خجل\" البعض لما شاهدوه فى فلم الجلد. ليس هذا فحسب، بل لقد أقر بأنه قد شاهده مرات ومرات ولم يرى فيه حرجا، أو ما يخجل منه، بل لقد أبدى دهشته هو من \"دهشة\" الآخرين!! ألم أقل لكم بأن المكان المناسب لهذا الرجل هو مشافى الأمراض النفسية و العقلية!! لقد تمنيت فى نفسى أن يوقف هذا الرجل حديثه عن شريط جلد الفتاة عند هذا الحد. لكنه مضى قائلا، وفى \"قوة عين\" عجيبة، بأن ما حصل لا يعتبره خطأ من القاضى الذى أصدر الحكم، أو الشرطة التى نفذته، بل الخطأ يقع أولا و أخيرا على الفتاة نفسها لأنها،\"أبت تقعد فى الواطة\"، كما أمرها جلاديها، أو كما قال!! ألم أقل لكم من قبل بأن قوة العين صنعة. بربكم هل يمكن أن يصدر مثل هذا الحديث عن رجل عاقل، ناهيك عن أن يكون رئيس دولة؟! بل لقد ذهب الى أبعد من ذلك فى نفس هذا اللقاء ليتساءل و يقول، \"كيف يجد المسلمون \"حرجا\" فى تطبيق ما أمرهم به سبحانه و تعالى فى محكم تنزيله؟\". يا سبحان الله. ماذا يمكن أن يقال فى هذا المشهد. نعم قالها هكذا دون أن يرجف له جفن. إنه حديث مقزز بالفعل و مثير للإشمئذاذ !! أصدقكم القول أنني كدت أفقد صوابى فى تلك اللحظة، ولم أصدق ما تشاهده عيناي. ثم سألت نفسي: هل أنا أمام رجل دين أم رجل دولة؟ وقد أيقنت حينئذ بأنه ليس بهذا أو بذاك. و إليكم الدليل. فإن كان البشير رجل دولة، كان من الأجدر به أن ينتظر نتائج التحقيق الذى أمر به قادة أجهزته التنفيذية- الشرطة و الجهاز القضائى- ثم من بعد يقول الرأي الفيصل الذى توصى به تلك الأجهزة، كما يفعل رؤساء الدول و مسئوليها فى كل بقاع الأرض. لكن رئيسنا الهمام دائما ما يثبت لنا بأنه قد \"صنع خصيصا للسودان\"!! وهل هنالك إهانة مهنية يمكن أن تقدم لتلك الأجهزة، و القائمين على أمرها، أكثر من هذا؟ ليته إكتفى بذلك. لكنه، و إمعانا فى الإستخفاف بأجهزته \"الدستورية\"، قرر تعديل الدستور من خلال المنابر الجماهيرية و الإعلامية، كما فعل ذلك فى مدينتي القضارف و الحلفاية، و كذلك فى لقاء الجزيرة الخاص، دون أي إعتبار لتلك الأجهزة، كالمجلس الوطنى، الذى يدعي دوما بأنه قد تم إنتخابه بصورة حرة و نزيهة، و أنه يمثل إرادة الشعب. يا سبحان الله. أي إرادة تتحدث عنها؟ و هل هنالك إرادة تعلو فوق إرادة القائد المبجل فى ظل دولة فاسدة مستبدة؟! أم أنها الأجهزة الكرتونية التى لم تؤسس فى المقام الأول إلا لتبصم على قرارات الرئيس القائد، و أن قضايا و إهتمامات الشعب تأتى فى آخر أولوياتها. هذا إن كانت توجد لها أولويات فى الأساس. لكن الغريب فى أمر هذا الرجل أنه لا يكن أي إحترام لمؤسساته، حتى و إن كان ذلك يمثل الحد الأدنى الذى يحفظ ماء وجهها أمام \"الجماهير\"، كما كان يفعل سلفه سئ الذكر جعفر نميرى. ألم أقل لكم أنه يفتقد الى المقومات الأساسية التى تؤهله ليكون رجل دولة!! كما أن هذا الرجل لا يشبه رجال الدين الأجلاء، و لا ينتمى إليهم. فإن كان هو كذلك، فإننا نود أن نسأل \"فضيلته\" سؤالا واحدا، بسيطا ومباشرا: ما هو حكم \"الشريعة\"، التى تهدد بتطبيقها على الضعفاء و المساكين من بنات و أبناء شعبنا، فى حالة رجل محصن، و متزوج بإمرأتين، وجد متلبسا فى خلوة غير شرعية ، فى غرفة واحدة، لفترة تقارب الساعة من الزمان، مع فتاة جميلة تدعى غادة، وهي ترتدي بنطالا و تنورة، حافية الرأس، لا تغطي شعرها ، حتى بغطاء كذلك الذى كانت تضعه لبنى أحمد حسين على رأسها، بل تسدله متموجا على أكتافها؟ ما هو حكم الشريعة فى حالة هذا الرجل، فضيلتك؟ نحن فى إنتظار ردك المباشر، كما يمكنك أن تستعين بصديق من أفراد قبيلة ترزية الفتاوى، كأعضاء من يسمون أنفسهم ب \"هيئة علماء السودان\"، الذين \"يفصلون\" لك الفتاوي على قدر المقاس الذى تطلبه، كلما إدلهمت بك الأمور!! و أكاد أجزم بأنهم سيجدون لك مخرجا \"شرعيا\" يستند الى فقه الضرورة و شريعة \"البشير\"، و هكذا هى عادة تجار الدين، و مجموعات الهوس الديني، و علماء السلطان، فى كل زمان و مكان عبر تاريخ البشرية الطويل. كما أود أن أؤكد لك بأن الأمر لو كان أمر دين وشريعة، بحق و حقيقة، لكنت أنت أول من يطبق عليه تلك الأحكام التى تهدد و تتوعد بها الضعفاء من جماهير شعبنا الأبى الصامد. لكن الأمر لا يعدو أن يكون أمر إستغلال للدين و الشريعة، أسوأ ما يكون الإستغلال لأمر دنيوي بحت، ألا وهو المحافظة على كراسي الحكم التى سرقتموها بليل. أختم فأقول إن الإرهاب الذى تمارسونه بإسم الدين لن ينجيكم من مصيركم المحتوم، وخير لكم أن تعتبروا بما حاق بسلفكم سئ الذكر جعفر نميري، الذى بايعتموه إماما للمسلمين، ثم ذهب به شعبنا الى مزبلة التاريخ، غير مأسوف عليه، بعد نحو عامين فقط من تلك البيعة اللعينة، فى إنتفاضة أبريل المجيدة، التى لم ينجيها من ألسنة لهيبها الحارق حتى أسياده الأمريكان!! 10/1/2011م