تحليل سياسي : التغيير الواجب في السودان من التفاصيل الي الكل عامر علي محمد [email protected] ارتكب العقل الحكومي الحالي خطيئته الكبري يوم ان غادر محطة الافكار الكبار الي نفق التفاصيل المظلم، لقد قدمت حركة الاسلام طوال تأريخها الافكار الكبار عن التغيير المطلوب تجاه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لكن النموذج التنفيذي لحكمها المغتصب عبر السلاح في الثلاثين من يونيو 1989م تسلط عليه ثلة من قصار النظر لم يروه الا سلطان آتاهم عبر اساطير الاولين القائلة بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .. وان السلطان ظل الله في الارض ..وانهم الفئة المسلمة التي مكنها الله من السلطان فلن تسلمه الا لله في الآخرة أو لعيسي عليه السلام في الدنيا ، لقد انقلبت حركة الاسلام علي نفسهايوم ان أخذت السلطان بالقوة الغاصبة وخانت افكارها ومبادئها ، ومهما كانت المبررات السياسية والتقديرات الآنية حينها لحفظ الحركة من ضربة باتت وشيكة تجاهها وشبح القهر المصري للاخوان المسلمين والانقلاب العسكري بالجزائر علي كسب الجماهير قائما ، الا ان عدم الالتزام بالتغيير المؤقت والانفلات الي تكليف الحركة نفسها بانقاذ السودان عوضا عن انقاذها نفسها ومبادئها وافكارها قد ادي بها الي نفق مظلم طويل لم تخرج منه حتي الان حتي وهي تنقسم وتحترب داخليا . لقد كان واضحا جدا ان العقل المدبر لانقلاب 30 يونيو لم يكن يطمح الي اكثر من اعادة ترتيب أسس المنافسة في الساحة السودانية والتي كانت في نظره مختلة ومائلة الي احتمالات الحسم العسكري ضد التوجه الاسلامي سعيا لاقامة نموذج علماني لا مكان فيه لاوجه التدين مطلقا ، وكان واضحا جدا (راجع كتابات الاسلاميين خصوصا كتاب المحبوب) ان التدبير لفترة مؤقتة لاعادة التوازن ومن ثم اتاحة الفرصة للحريات التي هي الركن الركين في حجر الفكر الاسلامي هو الامر الصائب الذي لم يتم ، اذ سرعان ما غرق قصار الافكار المتنفذون الجدد في تفاصيل ادارة دولاب الوضع الجديد يغوصون رويدا رويدا عميقا بعيدا عن الافكار الموجهة والمبادئ الحاكمة لفكرة التغيير . وبغياب للوعي مدهش جدا غرق التنفيذيون في مهام تأمين الوضع الجديد .. وأخذتهم السكرة الي التفكر في برامج ادارة دولاب الدولة التي لم تكن موجودة اصلا في مخيلتهم ، وبقدر ما كانت مؤتمرات الانقاذ القطاعية المختلفة فكرة جديدة وجميلة للشوري واستقطاب الرجال والافكار ، بقدر ما كان قصر النظر عائقا عن رؤية الافكار وفالحا في استثمار السلطان لتركيز حكم الثلة المؤقتة علي حساب البرنامج والافكار الموجهة ، وهنا نأتي للخطأ الاكبر من قيادة الحركة ورموز الفكر فيها وعلي رأسهم الشيخ حسن الترابي الذين غرقوا هم كذلك في تفاصيل ادارة من يدير الجهاز التنفيذي معرضين عن الجهر بتصحيحه عن انحرافاته البينة تحت ضغط الاعباء اليومية لادارة اقتصاد ينهار وحرب تستعر ومجتمع يتفكك ورفض اقليمي ودولي يتعاظم ، وكان تأجيل حسم المعركة مع الجهاز التنفيذي رضاءا بالغنائم المتواضعة من (التدرج الدستوري) وحل مجلس الثورة العسكري انتهاءا الي اعلان دستور 1998م الذي مثل نموذج الحركة الاسلامية الاكبر في رؤيتها لادارة دولة سودانية متنوعة حرة ، الا ان المياه الكثيرة التي مرت تحت الجسر حجبت رؤية السلطان المتمكن بالاشخاص لا بالافكار .. النهم للمال .. المعلي للعرقية ، حتي ما اذا جاء فجر الانقسام داخل الحركة الاسلامية الحاكمة حينها لم يكن الا فصلا في مسرحية صعب جدا علي الممثلين النزول بعدها من المسرح لممارسة حياتهم الطبيعية ، فنزل الترابي ومعه ثلة انقسمت بين اصحاب المبادئ وهم دائما قلة .. وبين الموالين لاهل الثقة .. وبين الصادقين الرافضين للفساد فطرة لا فكرة .. وهولاء هم من يعودون الي حزب السلطة طال الزمان او قصر ببكائيات المفارقة بين خياري التدين المزيف لدي السلطان وادعاءات الفكر العلماني الرافض للاسلام عند الآخرين. ولقد غرق العقل الحكومي في تفاصيل اتفاق السلام ب(نيفاشا) مبهورا بالمثل الانجليزي الذي صدح به المناضل قرنق (الشيطان في التفاصيل) غافلا عن ان مهمة الشيطان الرئيسية هي اغراق الانسان في التفاصيل التي تضله عن رؤية المبادئ الموجهة، ولقد غرق تنفيذو الحكومة في تفاصيل تشكيل المؤسسات والارقام والتواريخ المحددة ، يعملون جهدهم ودهائهم في كسب الكسور والعشور فرحين محتفلين بانجازات الكسب الضيق القصير .. غافلين عن معني السلام وضرورات التعايش والوفاء بالعهود حتي اصبحوا في صبح الانفصال وقد صوت اهل السودان من الجنوب علي فسادهم وطغيانهم قبل ان يصوتوا لاقامة وطن جديد . وهاهو العقل الحكومي يغرق من جديد في مغالطات اللحظة القائمة في السودان يغوص في بحار حسابات الدرهم والدينار .. حسابات التأمين المكلف للثلة الحاكمة ، غافلا عن رؤية الشرخ العميق المترتب عن انفصال الجنوب في ضمير الانسان السوداني .. وعن توالي الاحساس بالظلم والغبن تجاه الفعل الحكومي تجاه الجنوب ودارفور والشرق المؤدي الي مناداة بالانفصال في كل طرف متبقي ، والعقل الحكومي لا يبصر السخط المتنامي تجاه لعبته بالبيضة والحجر وارقامه السمجة التي يتفراغ لها ثلة من التنفيذين لاعلانها علي الشعب بقيادة نائب الرئيس .. الارقام الهذيلة والمضحكة والمتكررة من حيث العدد والتوقيت الخاطئ والقراءة البليدة للواقع وطلبات الشعب من قادة انظمة الحكم في كل من تونس الي مصر الي اليمن الي السودان . يتحدث الشباب والسودانيون اليوم عن المعاني الكلية الغائبة من الحريات والعدالة وتساوي الفرص ، ويغرق العقل الحكومي في تفاصيل قوانينه التي خاطها ضيقة جدا حتي علي مقاسه هو (اعتقال صحفيين من المؤتمر الوطني) ..يغرق العقل الحكومي في ارقام عدد الطلاب الذين يمنحهم صندوق دعم الطلاب فتات من الجنيهات .. ولا يبصر تدهور البيئة الجامعية من استاذ مؤهل او محترم في كسبه الي المعامل الي القاعات الي اعطاء الطلاب الحرية المطلوبة للتفاعل الاكاديمي اولا ولبناء الشخصية السوية جوهرا ، يغرق العقل الحكومي في عدد بطاقات التأمين الصحي التي سيوزعها علي أسر فقدت معني الاحساس بالحياة .. لان الحاكم يصر علي نعاملتها كبهائم ان اشبعها وعالجها فليس لها من بعد الا الحمد والشكر والثناء .. ان الحاكم السوداني يغفل اليوم تماما عن رؤية الانسان بالسودان .. لا يري انسان يفكر في غير الطعام والامان المادي .. انه لا يري ابدا معني للحرية والعدل والمساواة التي يطالب بها الانسان المخلوق لغير الاكل والشراب .. وعجبت لمن يدعون وصلا بمشروع حضاري يغفلون عن معاني تكريم الانسان بالفكرة فلا يرونها الا ترفا .. ولا يرون التكريم الا بحساب بليد يصدح به النائب وثلته في مؤتمر صحفي قدم الدليل القاطع النهائي علي الحاكم ينحدر الي درك (الانعام وأضل سبيلا) وهو يظن ان الناس بالسودان كلهم من مثل جنسه . صدقوني لنه الاعلان النهائي عن الافلاس والخسران .. لقد انتهي العقل الحكومي الي سكرة ليس بالانتظار ان يفوق منها .. سكرة التفاصيل والفرح بلعبة الارقام .. وسيصبح الصباح الجديد علي السودان تغييرا واجبا واعيا غدا او بعد غد.