محمد عبد الله برقاوي [email protected] سجلات التاريخ حينما تحتضن سيرة الناس الذين كان لهم أثر ما في الحياة أيا كان ذلك الأثر دينياً أو سياسياً أو علمياً أو فلسفياً أو فنياً أو رياضياً أو حتى عسكرياً أو خلافه.. فإنها قد تختلف من منظور القلم الذي خط تلك السيرة في أسفار الذاكرة.. فتغدو مثار خلاف أو اتفاق وفقا لفهم كل عقل على حدة لفكر أو أداء أو رسالة من كتبت عنه تلك السطور.. وكثيرا ما قرأنا متناقضات حول أناس وصفهم البعض بالعظمة فيما ذهب آخرون إلى نعتهم بالخيانة.. بل فقد مضى الكثيرون إلى العالم الآخر وهم مغضوب عليهم من عقلية ذلك الزمان إمّا مدانين بالزندقة من منطلق الخلافات العقائدية أو أنهم وصفوا بالجنون فيما ذهبوا إليه من تفسير لظواهر الكون وأسراره.. ولكن دورة الزمان حينما تدحرجت إلى الأمام وأنجلى ظلام الجهل هارباً حيال اتساع دائرة شمس العلم ونور التقدم.. التفت العالم المتحضر إلى مراقدهم وانصف أولئك الذين ماتوا ظلما بانجاز حصدت ثمرته الأجيال اللاحقة لزمانهم.. تماماً مثلما يكتشف العالم المعاصر أنّ الكثيرين ممن سجلوا في قائمة العظماء في زمان غابر إنما كانوا مسخاً مزورا.. منحنتهم ظروف زمانهم أو سطوتهم صورة زائفة لعظمة هم لا يستحقونها لأنهم ببساطة إمّا أنّهم أجبروا أهل ذلك الزمان على التسليم بها أو أنّهم حاولوا أن يشتروها..فلما ذهبوا تلاشت خلف ذكراهم، في عالمنا المعاصر ربما لم يتفق العالم حول عظمة رجل في عصرنا الحالي مثلما اتفقت الانسانية على شخصية المناضل الشامخ نيلسون مانديلا الذي صنع تلك العظمة بنضاله وحقق المجد لأمته ممثلا في شخصه.. إذ قبع في غياهب السجن سبعة وعشرين عاما وكان من الممكن أن يشتري حرية منقوصة وذليلة لو أنه نطق بكلمة واحدة أو حتى كتبها على جدران زنزانته وقرأها سجانه. وحينما تسلل ضوء الشمس إلى محبسه من عيون شعبه التي حملته في غيابه الحاضر... خرج يسير عالي الرأس وهو يتنسّم عبق هواء عبأءه في رئة الوطن من أنفاس صموده وهو خلف القضبان... خرج للناس معلما وموجها بتجارب اكتسبها عقله الذي كان يتسع يوما بعد يوم رغم ضيق الحيز المكاني المعتم بالعزلة بعيدا عن دوائر المعرفة. وصوت الإعلام... ولكن فكره الثاقب وفؤاده السابح في فضاءات الخارج مع طموحات وأحلام شعبه كان الوتر الواصل له انسجاماً مع اوركسترا نبض الشارع لحظة بلحظة. لم يخرج للناس ليسددوا له فاتوره أسره فارضاً نفسه حاكماً أبدياً.. فاستجاب لدورة الأيام التي هي دول وحكم بتفويض من شعبه... ثم .. تقاعد وتصفيق الجماهير له كان في أوجه... لم ينتظر حتى تصفر له المدرجات. ولم يورث ملكاً لمن هم من صلبه... فرسم لشخصه كل ألوان الخلود في نفوس الإنسانية جمعاء لأنه لم يؤثر البقاء الزائل على كرسي السلطة كما يفعل الآن الكثيرون من حكام عالمنا العربي والإفريقي.. الذين يظنون أن العظمة ثمنها القمع والتجويع والتدليس باسم الدين أو تتأتى بتزوير صناديق الانتخابات على غير ما تشتهي إرادة الشعوب.. وحينما تهب عليهم رياح الغضب يذهبون غير مأسوف عليهم بل وتلاحقهم دعوات المقهورين قبل أن تتعقبهم شرطة المحاكم الدولية وهم طريدون في ذلة المنافي.. ثم يقفون أكثر وضاعة بعد أن ينفقوا غرباء كالأنعام.. أمام مليك مقتدر ليحاسبهم بما اقترفوا في حق البشر المساكين.. مانديلا الآن يدخل المستشفى لأيام معدودات ثم يخرج وهو في الثانية والتسعين من عمره وربما تكون هذه رحلة علاجة الأخيرة.. مثلما قد تكون هذه السنة هي الأخيرة في السلطة والتسلط بالنسبة لعدد من حكام المنطقة العربية والإفريقية تبعاً للشواهد التي تنطق في شوارع بلدانهم.. ولنا أن نقيس الفرق بين زعيم نادر في زمانه رابطت جموع الناس بكل قطاعاتهم وأعمارهم حول مرقده في المستشفى تنثر الأزاهير والقبلات و طيب الدعوات لرجل إن عاش فهو عظيم وإن مات ازداد عظمة حققها بصدقه الوطني وعززها بنبله الإنساني.. وحافظ عليها بشجاعته لأنّه يملك قراره.. بالدرجة التي انتهر فيها رئيس أعظم قوة في العالم بيل كلينتون حينما زاره في جنوب إفريقيا وحاول بتعالي الجاهل لقوة مانديلا أن يملي عليه في خطبة عامة أن يلغي صفقة سلاح أبرمتها حكومة جنوب إفريقيا مع حكومة سوريا.. فتصدّى له مانديلا قائلاً:( تأدّب يا هذا فانا لا أعمل صبياً عندك فوالله لولا أنّك ضيف في بلادي لكان لي معك شأن آخر). فأين تلك القوة والجسارة من زعماء يلعقون أقدام الرؤساء الأمريكان استجداءً للحماية لهم في كراسي هي الآن تهتز من جراء زحف يحصب عليهم الحجارة والأحذية.. فشتان بين عظمة تعتز حينما تقترن بمناديلا.. وبين ذلة تأبى تعففا أن تنزل إلى مستوى الاقتران بأناس باعوا كرامتهم مقابلا لحكم لو دام لغيرهم.. لما أتى اليهم.. لو كانوا يعقلون.. فطوبى لك بابا مانديلا وأنت مستشفياً.. والمجد عوفي إذ عوفيت والكرم.. فمثلما عشت عظيما تتربع في قلوب الإنسانية جمعاء فستمضي بعد عمر طويل بإذن الله جسدا فقط لأنك كتبت اسمك بل وحفرت صورتك في عيون الزمان.. وهي تشهد تمثالك المنتصب كالطود الأشم في أكبر ميادين لندن رمزا للحرية... فيا لها من عظمة... لا تشترى بالمال ولا تتأتى بقوة ( الضراع). والكلام للذين لا يعرفون قراءة التاريخ لأنهم لا يفهمون معنى الجغرافيا، و لا يقدرون قيمة الحرية فهم ببساطة لم تأت بهم إلى سدة الحكم حرية وإرادة الشعوب؛ لذا فستزفهم لعنات المظاليم إلى يوم الدين؛ على خلاف مانديلا الذي تحفه دعوات المحبين بالشفاء إن كتبت له في العمر بقية، وإن ذهب فهو قرير العين مرتاح الضمير.. فقد عاش حرا لأنه عشق الحرية والعزة وملكّها للآخرين وسيظل خالداً في ذاكرة التاريخ.. وثنايا الجغرافيا.. ونسيج الإنسانية.. والله المستعان.. وهو من وراء القصد.. نقلا عن صحيفة التيار اليوم 5/2/2011