رأي إضاءات على المشهد السياسي في مصر والسودان السفير عبدالله عمر السمة العامة حتى الآن، أن التغيير الجاري في مصر يقوده جيل يبدو رافضا للقوالب القديمة، وظاهريا متأثرا بالثقافة الغربية عامة والأمريكية خاصة. ذلك الجيل الذي ربما لم يعد يثق بقدرة القيادات التقليدية مثل الإخوان المسلمين والاتجاه السلفي عامة أو الوطنية المحافظة مثل حزب الوفد، على تقديم حلول عملية لمقابلة أوضاع مصر السياسية والاقتصادية، بظروفها وملابساتها الداخلية والخارجية. وربما يكون جيل الشباب باحثاً عن بلورة للمبادئ الإسلامية من خلال السياق الليبرالي. وكذلك بمتابعة الإعلام المرئي فربما نلاحظ عدم ظهور واضح لأهل صعيد وجنوب مصر، سواء على المستوى الجغرافي أو البشري على مشهد التعبير التظاهري لرفض الحكم القائم. إذ أن مناطق جنوب مصر مثل أسوان مازالت هادئة نسبياً.. وربما يرجع أحد أسباب ذلك للسيطرة التاريخية لما يسمى بالعنصر الاسكندراني «أي سكان مدن الدلتا»، وتنافسه فيما بينه على الحراك السياسي والاقتصادي. والعنصر الصعيدي والفلاحي بصفة خاصة كان يرى في ثورة يوليو1952م تحولاً لصالحه في وجه الاستحواذ التاريخي لسكان مدن الدلتا على مفاصل السياسة والاقتصاد في مصر. فهل مازالت هنالك جولة أخرى، مهما طال بها الانتظار والتأجيل، تنتظر مصر لإكمال أجندة ثورة يوليو لتعديل وإصلاح ما يراه البعض عدم تكافؤ فرص. وربما نرى ملمحاً من ذلك اليوم في دوافع وطبيعة وشكل الانتفاضة في سيناء حيث غلبة العنصر البدوي المتمايز عن بقية سكان القطر بعامة. ومطلب المتظاهرين برحيل النظام عامة وحسني مبارك خاصة، لا يقتضي رحيل هذا الأخير عن مصر بالأسلوب المهين الذي خرج به بن علي من تونس. ولعل مرد ذلك إلى طبيعة الشعب المصري المتسامح، والذي لا يود أن ينظر إليه العالم الخارجي عامة والعربي خاصة بشماتة. أمريكا والدول الغربية واسرائيل صارت مقتنعة بأن حكم مبارك قد فقد مقوماته، ومن ثم فهي تسعى للتحكم في اتجاه البديل القادم لقيادة فكرية وسياسية. ولعل المتظاهرين الشباب والمعارضة بما فيها الإخوان المسلمون لا يمانعون في هذا التوجه في ظل هذه الظروف، وذلك لإدراكها حقيقة أن القوى الغربية لا تسمح بتحول راديكالي في مصر بسبب انعكاسه الثقافي والسياسي والعملي على المنطقة العربية والإسلامية على الأقل. ويستبعد أن يكون هنالك تأثير مباشر للتحول في مصر على الأوضاع السياسية في السودان. إذ أن المشكلة التي يواجهها السودان هي نتاج مجمل أسلوب القوى السياسية حكومة ومعارضة، بما في ذلك حركات التمرد المسلح جنوبية وشمالية، للفوز بالحكم التي اعتمد فيها الجميع، على استخدام واستنفاد الموارد والقدرات الاقتصادية والمالية في سبيل الهدف السياسي، مما أوصل السودان إلى وضع لا يتجرأ معه أحد للتقدم للإمساك بزمام الأمور، وربما كان أكبر المتورطين هي الحكومة ذاتها. وإن كانت القوى السياسية المعارضة اليوم تحاول أن تظهر بمظهر الساعي لتغيير نظام الحكم، ولكن بالنظر إلى أسلوب كر وفر الأحزاب التقليدية خاصة طيلة السنوات التي أعقبت توقيع اتفاقية السلام الشامل، فهي في حقيقة الأمر تسعى للحصول على مكاسب مباشرة أو وظائف في الدولة ذات مردود امتيازي ربما لا يلحظه المواطن العادي، وذلك مع الاحتفاظ بشعار المعارضة للنظام القائم، انتظارا لما عسى أن تتبلور إليه الأوضاع في السودان عامة من تلقاء نفسها. وهو انتظار ربما يطول بها مداه. فهل يمكننا القول إن الموقف الاستراتيجي للقوى السياسية هو في الواقع عدم حرصها على السلطة والحكم المباشر حاليا، وإن التكتيكي هو سعي التقليدية منها ممثلة في الأمة والاتحادي لابتزاز الحكومة للحصول على مكاسب من تحت الطاولة، مع الظهور بمظهر المعارض لها. وسعي الحديثة منها ممثلة في المؤتمر الشعبي واليسار لإضعاف الحكومة والاحزاب التقليدية معا. فيبدو أن الهدف الاستراتيجي التاريخي لزعيم المؤتمر الشعبي، على غير ما يبدو على سطح المشهد السياسي عادة، هو إخراج الحزبين التقليديين من ساحة الفعل السياسي، فهو إنما يدفعهما للدخول في مركب النظام القائم الذي يعتبره مجرد فترة حكم لمجموعة من الأفراد سيزول مهما طال به العمر. وربما تلتقي في هذا الاتجاه من التعامل مع الحزبين التقليديين الأولوية الاستراتيجية للإسلاميين الذين هم اليوم على سدة الحكم «المؤتمر الوطني» مع رؤية الإسلاميين في المعارضة «المؤتمر الشعبي». وربما تعمل الحكومة على أن تحرم قيادة الحزبين التقليديين من قطف ثمار التكتيك المشار إليه، وذلك بحرمانهما كليا من عائد الابتزاز مع الاحتفاظ بسلامة الانتظار في الخارج. ومن ثم فهي تدفعهما، وخاصة الميرغني، لحسم موقفهما إلى واحد من الاتجاهين، إما دخول معلن ومشاركة مباشرة في الحكومة أو معارضة سافرة. وربما ذهب المؤتمر الوطني إلى مستوى اشتراط عودة الميرغني للسودان لحرمانه من تكتيك «أكل الكيكة والاحتفاظ بها في نفس الوقت»، وذلك بإرسال إشارات حمَّالة أوجه يقوم بترجمتها من يعتبرون أنفسهم ممثلين له في الداخل مع احتفاظه ببطاقة التملص منها. إذ أن المؤتمر الوطني ربما لم يعد يرى في ظل الواقع الاقتصادي والسياسي متسعاً لسياسة احتواء تدريجي للميرغني، بعد أن بلغت الأوضاع نقطة الإقلاع إلى أفق جديد لا نظر فيه للوراء نتيجة لتداعيات انفصال الجنوب. إذ ربما ترى الإنقاذ نفسها مقبلةً على فترة بمعطيات جديدة تحاول أن تقدم بين يديها رؤية مبتكرة يحاول البعض أن يطلق عليها الجمهورية الثانية. ولا شك أن الإسلاميين التاريخيين في المؤتمر الوطني يضعون في حسبانهم عند معالجة أمر الميرغني استراتيجية إضعافه جماهيرياً، وذلك بجدلية أنه هو الذي يتقاسم معهم نفس الشريحة البشرية في السودان جغرافياً واجتماعياً. كذلك ربما يعتمد المؤتمر الوطني في التعامل مع قيادة حزب الأمة دفعه للمشاركة المباشرة المعلنة، إلى جانب المخاطبة المباشرة لقيادات إقليمية منتمية تاريخياً للحزب ولكنها ترى نفسها أحق بتمثيل أهلها مباشرة. ولا شك أن ذلك سيكون له مردود مزدوج، بدفع حزب الأمة للحاق بالحكومة ومعالجة المشكلات الجهوية باحتواء العناصر الفاعلة. وربما يضطر المؤتمر الوطني تحت ضغط الموارد الاقتصادية التي ما عادت تفيض عن الضروريات، للاستغناء عما يسمى بأحزاب تحالف حكومة الوحدة الوطنية الذين صاروا بمرور الزمن مجرد أفراد ربما ضيقوا الفرص التي صارت محدودة لاقتسام السلطة مع العناصر الجهوية الفاعلة. وبالنظر إلى طبيعة الأزمة السياسية الحالية في السودان، فهي ربما ليست بالضرورة تناقضاً حاداً مع جمهور الشعب في السودان، وإنما هي أزمة اقتصادية بسبب تداعيات العوامل السياسية ضغوطاً خارجية واستهدافا داخلياً وأسلوب معالجة من قبل القوى السياسية حكومةً ومعارضةً. وبالنظر إلى ذلك فليس بالضرورة أن تجد أمريكا أرضية ملائمة أو تسعى لتغيير نظام الحكم في السودان بتشجيع اتجاه الأسلوب التونسي أو المصري. ولكن أمريكا ستواصل العمل لخلخلة مفاصل الحكم في السودان من خلال التأزيم الاقتصادي بتعميق ما هو قائم داخلياً وبالضغط السياسي الدولي. ولن يكون مخرج حكومة السودان في التعويل على وعود الإدارة الأمريكية برفع السودان عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب. إذ أن تلك الخطوة على افتراض صدقها وإمكانية تنفيذها، لن يكون لها مردود إيجابي مباشر وعاجل على المشكل الاقتصادي بتداعياته السياسية في السودان. وختاماً فربما برز مع مرور الزمن وانسداد الأفق تيار أو قوى جديدة من غير تلك السياسية التاريخية جميعا. وقد تتجرأ تلك القوى الجديدة وتتقدم الصفوف ولو من غير قيادة في البداية، بدوافع وعوامل ربما أحدها عدم إدراك أولئك لحقيقة المأزق لقلة تجربتها العملية. وقد تلقى هذه القوى الجديدة دعماً سياسياً غير مباشر ورعاية من قوى خارجية، ليس بالضرورة لارتباطها الفعلي بالعمالة لتلك الخارجية، ولكن ذلك بطبيعة تداعيات الأحداث والتداخل النسبي غير المباشر للمصالح. وبالطبع فإن عدم إدراك تلك القوى الجديدة لحقيقة مأزق الأوضاع عامة والحكم خاصة في السودان، لا يعني أنها ستكون مرفوضة أو أنها ستفشل، إذ أنها على الأقل تملك عذر أنها لم تكن أحد العناصر التي شاركت سياسياً في وصول السودان إلى مأزقه الحالي. الصحافة