في الشأن العام بين أوهام الحكومة وأحلام المعارضة د.سعاد ابراهيم عيسي بعد انتهاء عملية استفتاء جنوب السودان وتأكيد خيار الانفصال عن الشمال، كثر الحديث عن السودان الجديد الذي نتج بعد أن افتقد القديم جزءا مقدرا من أرضه وشعبه، يستوجب إعادة النظر في كل ما هو قديم مرتبط بسودان المليون ميل مربع. وقبل ان يتم الاتجاه نحو الكيفية التي سيدار بها الوضع الجديد، انطلقت ثورات تغيير أنماط وأساليب وأنظمة الحكم القديمة التي جسمت على أنفاس شعوبها سنين عددا، فشملت كل الدول العربية التي اهتزت عروشها وأدت إلى سقوط بعضها، ولا زالت نيرانها مشتعلة ومتصاعدة حتى تكمل مشوارها، فجعلت تلك الثورات من إمكانية استمرار أساليب الحكم القديمة التي مكنت حكام تلك الدول من الجلوس على مقاعد السلطة عقودا من الزمان، مستأثرين بكل خيراتها هم ومن والاهم، من الاستحالة بمكان. ومن ثم يصبح على الحكام الإسراع بخطى التغيير ليتماشى مع مطلوباته، وان يبادروا به بأيديهم قبل أن تفرضه عليهم أيدي شعوبهم. ومن الحكام من وعى الدرس ففعل قبل الوصول إلى مراحل ( الشعب يريد إسقاط النظام.) كما ومنهم من أصموا آذانهم واستغشوا ثيابهم واستكبروا استكبارا، فسقطوا من عروشهم تلاحقهم لعنات شعوبهم. حكومة السودان مطالبة مثل غيرها بل قبل بعضها، بالاستجابة لنداء تغيير أنظمة وأساليب الحكم الذي توافقت عليه الشعوب العربية، من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية، وبالسرعة التي تمنع الانفجارات الجماهيرية التي يحدثها الشعور بالتجاهل والاستهانة وإنكار الواقع والحقيقة، من جانب النظام الحاكم. ولا زال الأمر بيد الحكومة إن أحسنت معالجته، خرجت بالبلاد والعباد إلى بر الأمن والأمان، وان اعتمدت على أساليبها القديمة في التحايل والمراوغة والرهان على الزمن، فلن تنجو من مصائر من سبقوها طال الزمن أو قصر.غير أن الحكومة لا زالت في حيرة حيال ما ستفعل من أجل توفيق أوضاع الحكم ليتسق مع مطلوبات الوضع الجديد، ودون أن تتحمل أي عبء من جانبها كما تعودت، لذا فهي في تناقض تام بين ما تريد أن تفعل وبين الخشية من فعله كما وان الحكومة اليوم، وبجانب تشبثها بالانفراد بالرأي والقرار، فهي تعيش وهما كبيرا بأنها لا زالت قادرة على تمرير أجندتها وخدمة قضاياها، من خلف ظهر المواطنين، باستخدام ذات الأساليب التي سلف ذكرها، وتتوقع الوصول إلى غاياتها. فمنذ ان برزت قضية زيادات الأسعار وبرز على السطح إمكانية تحرك الجماهير ضد تلك الزيادات، ودون الارتقاء إلى مراحل المطالبة بإسقاط النظام، ما سمع المواطن رأيا يشير إلى ما ترى الحكومة من معالجات لتلك المشاكل وغيرها، في ذات الوقت الذي تصم آذانها عن سماع رأيه في ذلك، بحرمانه من الخروج للإفصاح عنه قولا، لن يضيرها بقدرما يعمل على إزالة الاحتقان الذي متى تزايدت درجاته لابد من أن يقود إلى الانفجار. غير أن المواطن الذي ظل محروما من سماع صوته، أو إبداء رأيه للحكومة، ظل مستمعا إلى سيل من الآراء المتضاربة والمتناقضة التي يصدرها قيادات ذات الحكومة دون تنسيق أو تخطيط بينها، حتى أصابته بدوار سياسي فقد معه توازنه واتجاهات سيره، بل شل حركته. كما وفي الوقت المطلوب فيه التهدئة من جانب النظام حتى تنجلي هذه العواصف التي ظلت تهب عليه من كل جانب، ظل متمسكا بأساليبه السالبة، من تفخيم ذاته وتبخيس الآخرين، ليس اقله الوهم بأن غالبية شعب السودان تقف معه، حتى بلغ الوهم ان تم تقدير من يقفون خلفه بنسبة 90%. وبرغم كثافة تلك النسبة، فإنها لم تطمئنه على أن يفسح المجال للنسبة البائسة الباقية ان تعلن عن نفسها صراحة بالخروج إلى الشارع للتعبير عن رأيها عما يجيش بخاطرها تجاهه، فيمنعها منعا باتا، رغم انه لابد من أن يجيء يوم ترى فيه السلطة الحجم الحقيقي لجماهيرها متى فتحت الأبواب للآخرين للإطلال عليها كما تقول، ولكن بعد ان يكون الوقت قد انقضى من اجل إصلاح الخلل الذي تسبب فيه الركون إلى أوهام الكثرة التي لم تتم مضاهاتها بغيرها. ومن قبل توهم النظام بان نسبة من يؤيدون الانفصال بجنوب السودان لم تتعد 40%، لتنخفض في مرحلة أخرى، إلى نسبة نصف في المائة فقط، ربما يرجع التباطؤ في السعي من اجل جاذبية الوحدة إلى الاطمئنان لتلك النسبة التي كشفت الحقيقة زيفها ولكن بعد أن انقضى الوقت الذي كان ممكنا أن يتم فيه الارتفاع بنسبة الوحدة ولو قليلا، من الدرك الذي وصلت إليه بسبب ذلك الوهم. والحكومة تتوهم ان جميع قياداتها على درجة من نظافة اليد والبعد عن الفساد، وان كان من بينهم من هم كذلك، لكنه ليس من الإمكان تعميم ثقتها في الجميع، ولو صرفنا النظر عن الفساد المؤسسي الذى يشير إليه المراجع العام في كل عام، والذي أبان أخيرا بأنه رغم تحديده، أي المراجع العام، لمواطن الفساد ورموزه، فان السلطة لم تحرك ساكنا، بل أبقت على الفاسدين بذات مواقعهم، ولا زالوا، والسلطة تدافع عن منسوبيها وتصفهم بالترفع عن الحصول على عمولات من الأموال التي تصرف على مشروعات التنمية،ومن بعد أموال البترول، الأمر الذى أدهش المستثمرين الأجانب كما تقول، بينما الفساد الذى عرفه السودان في هذا العهد لم يشهده في اى عهد سبقه، وهو فساد وثقته بعض الصحف وعززت وقائعه بالزمان والمكان وبالأرقام وبالأسماء صراحة، وكانت النتيجة ان تمت معاقبة الصحفيين الذين كشفوا عن الفساد، وغض الطرف عن الفاسدين، ولا زال الحديث عن الفساد الذى صاحب عملية الخصخصة دائرا حتى اليوم، حيث التخلص من المؤسسات الرابحة وبأبخس الأثمان، وهى الطريقة التي تجعل فرق السعر بين المفروض والمقبوض يذهب إلى المسئول البائع، والذي يسمى في لغة الفساد عمولة. ثم كيف يتم الحديث عن نفى الفساد عن مسئولي النظام جميعا، بينما الفساد يمشى بين الناس سيارات فارهة باهظة التكاليف، ولمن كان بالأمس يمشى راجلا، وعمارات شاهقة تسد آفاق السماء حيثما اتجه النظر، لم تغن أصحابها من اقتناء غيرها خارج السودان اقلها بمصر، ثم الخليج وأخيرا بالدول الأوربية، ثم الاستثمارات في كل ما له ثمرة، من شركات ومصانع وفنادق وأسواق وغيرها، لم يسأل النظام أهل ذلك الثراء عن الكيفية التي بلغوا بها أفحشه وهم ما كانوا بالأمس أكثر من مسئولين بمواقع مكنتهم من حصد ثمارها لصالحهم قبل صالح الوطن والمواطن؟ ورغم فوات الأوان فقد أعلن النظام أخيرا عن نيته تكوين مفوضية لمكافحة الفساد بحجة ان الفساد مرض لو دخلهم لكانت النهاية.( يعنى لسه ما دخل) وهنا أيضا لم ينسَ النظام ان يتمسك بالحق في تكوين تلك المفوضية من بين عضوية المؤتمر الوطني أولا ومن بعد يضاف إليهم غيرهم ممن يرى، الأمر الذى لن يقود إلى علاج المشكلة، ان لم يضاعفها إذ لن يستقيم عقلا ان تصبح عضوية المفوضية الخصم والحكم. فان كانت الحكومة جادة فى مكافحة الفساد فعليها ان تختار لعضوية تلك المفوضية بعيدا جدا من عضوية الحزب الحاكم المراد مكافحة فساده، الهم إلا ان كانوا بصدد أن يخلوها مستورة. والنظام يصر على التمسك برأيه في إمكانية تكوين حكومة ذات قاعدة عريضة، في الوقت الذى تتم الدعوة فيه إلى تقليص مؤسسات الدولة وتقليل جيوش المسئولين بها خفضا للصرف في وجود الأزمة الاقتصادية المتفاقمة حدتها، ومن ثم فان الحكومة المنشودة لن يتم تكوينها بان يفسح مسئولو المؤتمر الوطني بعضا من مواقعهم للقادمين، ولكن بخلق المزيد من المواقع لخلق المزيد من المشاكل الاقتصادية. والسلطة تدعو للمشاركة في حكومة القاعدة العريضة التي حددت برامجها وحصرتها في برامج حزبها، ومن بعد أعلنت بألا مشاركة في الحكومة إلا وفق ما ترى، بينما يربت احد أقطاب النظام على أكتاف المعارضة من جانب آخر، معلنا بان المؤتمر الوطني يبدى استعداده التام لمشاركة الآخرين في تعديل القوانين التي وصفتها أحزاب المعارضة بأنها مقيدة للحريات، وعلى رأسها قانون الصحافة والمطبوعات، بجانب تبشير القوى السياسية المعارضة بالمشاركة في وضع الدستور الدائم للبلاد، وبالحوار معها للمشاركة أيضا في الحكومة ذات القاعدة العريضة، التي قفل الباب أمام إبداء الرأي حول برامجها من قبل. وتتفضل مستشاريه الأمن القومي بالدعوة لإطلاق حوار قومي جعلته يتمدد لثلاثة أشهر من أجل مناقشة قضايا الحكم والاقتصاد، التي تشمل الدستور والحكم والفدرالية والنظام الرئاسي والحقوق والحريات والاقتصاد والعلاقات الخارجية الخ، يعنى كل شيء يخص الحكم. كل ذلك نسبة لان الدولة في حاجة إلى تقديم نفسها بصورة جديدة عقب انفصال الجنوب. الذي تم وصفه بأنه سيقلص الفوارق مما يسهل التوصل إلى إجماع حول تلك القضايا. ولا ندرى ما هي الصفة التي تعطى هذه المستشارية كل هذه الصلاحيات للنظر في كل أوجه الحكم، ثم ما مدى التزامها وإمكانية تنفيذها لما يخرج به هذا المقرر الدراسي الذي تحدد له (سمسترا كاملا) لانجازه؟ وبالطبع لا ننسى مثل هذه الزوابع السياسية التي يجيد المؤتمر الوطني إثارتها لتغطية بعض مشاكل الحكم التي ينتجها وحده، ويسعى لتقاسم تبعاتها مع الآخرين، الذين كثيرا ما ينخدعوا بمثل تلك التخيلات ومن بعد يكتشفوا أنهم قد قبضوا الريح. فكم عدد المؤتمرات التي انعقدت من اجل توحيد الصف والمشاركة في الشأن العام ومعالجة قضايا الوطن، ما أن ينفض سامرها حتى يعود المؤتمر الوطني إلى انفراده بالرأي والقرار وإهماله الآخرين حتى ضرورة أخرى. ثم كم عدد الاتفاقات التي ابرمها المؤتمر الوطني مع غيره من الأحزاب ولم يلتزم بتنفيذ أي منها؟ وبصرف النظر عن الآراء المتناقضة التي طرحها هؤلاء المسئولون كل على حدة، نسأل عن السبب في تمديد الوقت بمثل ذلك القدر، لثلاثة أشهر، وفى هذا الظرف الذى تتسارع فيه خطى التغيير بكل العالم العربي ولن يكون السودان استثناء؟ بصراحة الحكومة لا تريد ان تقتنع بان الحال لن يستمر كما كان بعد الذي كان داخليا وخارجيا. فانفصال الجنوب يفرض إعادة النظر في كل الأوضاع السابقة وعلى رأسها نظام الحكم من حيث التخلي عن الانفراد بالسلطة والسعي الجاد لإشراك الجميع فيها، وليس مبررا القول بان الحكومة أتت بثقة جماهير الشعب السوداني عبر الانتخابات السابقة، التي قاطعتها الغالبية العظمى من ذات الجماهير، بما يستوجب ان تبقى السلطة على سلطتها حتى نهاية الفترة المحددة لها لأجل خاطر من انتخبوها، فذلك ليس مبررا ما دامت هنالك جماهير أخرى، وأكثر عددا، لم تشارك في تلك الانتخابات، ومن ثم لن تقبل بالانتظار المطلوب، فيصبح أمر المشاركة العادلة في الحكم هي الحل. هذا بصرف النظر عن ان الحكام الذين سقطوا وسقطت حكوماتهم، هم أيضا جاءوا عبر انتخابات ما اختلفت إلا في مستوى وحجم تزويرها، لم تسعفهم بان تتم الاستجابة لمطالبتهم شعوبهم كي يصبروا عليهم حتى إكمال أعمارهم الرئاسية فانقضى اجلهم. أما أحزاب المعارضة فهي كالميت، الذي يحرم الضرب عليه، فقد حصرت كل أهدافها في حلم إسقاط النظام الحاكم، تعلن عنه وهى مجتمعة، بينما تسعى لإطالة عمره وهى متفرقة، كما وهى لا تملك أيا من الأدوات التي تسقط الأنظمة، كانت ثورات شعبية أو عصيانا مدنيا بعدت الشقة بينها وبين جماهيرها حتى وصلت أخيرا، أي أحزاب المعارضة،مراحل خلق المبررات لحماية النظام من الاهتزاز خوفا من الصوملة، فما الذي يرجوه الشعب السوداني منها، خاصة بعد أن تخطت كل الشعوب العربية التي فرضت إرادتها على حكوماتها، مختلف أحزابها. الصحافة