أ يهما العبّ ...مشروع الانقاذ ..أم ..مشروع الجزيرة !؟ ( مشهد ثاني ) محمد عبد الله برقاوي.. [email protected] حينما كانت الجزيرة منطقة جذب في تشّكل منظومتها الاجتماعية الرعوية و الزراعية ولاحظ الامام المهدي الذي خبرها ابان تلقيه العلوم القرآنية والدينية فيها قبل قيامه بالثورة أو قل اثناء الاعداد لها بمسيد الشيخ القرشي ود الزين في سرة المنطقة.. طيبة ..قال في استشراف بليغ ( ان الجزيرة أمرأة تحمل علي كتفيها رجلين ) ولكني اخشى ان هي سقطت عنهما الا يقويا علي رفعها.. وكان يقصد بالرجلين النيلين الابيض والازرق كناية علي تحملها اطعام السودان كله بشكله القديم لما أعتراها من هجرات القبائل اليها من مختلف الضفاف والأصقاع رعاة يبحثون عن الكلاء ..ثم تحولوا الي مزارعين بطرق الري المطري التقليدية بعد ان استصلحوا الأرض وقطعواعنها الغابات قبلا وبسطوها.. وهاهي نبؤة الرجل الفقيه تتحقق متمثلة في حكم الاعدام وقد اصدرته حكومة الانقاذ الرشيدة التي استمرأت قتل الأطراف الحية في السودان جزءا تلو الاخر باعتبارها اعباء ثقيلة يصعب جرها ..اذ لا يهمها بعد ذالك ان هي بقيت كسلطة ناشز في حد ذاتها عبئا علي التاريخ كله وصداعا يهيمن علي الرأس فقط ..بعد ان يذهب باقي الجسد.. لقد كان المشروع حتي قبل ان تنداح امتدادته الجديدة في المناقل مصدرا رئيسيا داعما للناتج القومي وعضدا قويا للاقتصاد منذ ان فكر الانجليز في اقامته لتغذية مصانع النسيج في بلادهم ..فبدأو في انشائه حتي اكتمل مابين عامي 1925 و1928 بعدان تمددت شبكات الري الانسيابي من خزان ( مكوار ..أو سنار ) لتتشكل لوحة من الخضرة والماء زينها انسان الجزيرة بوجهه الحسن فالا للوطن كله فتقاطرت جموع الناس لينهض مجتمع من التجانس الديمغرافي الفريد في رقعة جغرافية باتت تمثل نواة لمجتمع حضاري نشات فيه المدارس الاولي في السودان في رفاعة والكاملين وحنتوب ..التي رفدت كلية غردون التذكارية ..جامعة الخرطوم حاليا بالطلاب الوطنيين الذين كانت الحكومة الانجليزية تفكر في الاستفادة منهم في توسيع الظل الاداري للبلاد ..فاضافت فيما بعد بعض المدارس في انحاء اخري من السودان مثل خور طقت ..ووادي سيدنا في وقت لاحق.. ومن هنا تتضح جليا أهمية الجزيرة كمركز للاشعاع التعليمي ومنبتا للحس الوطني ومنارة للمشهد الثقافي بكافة ضروبه الفنية والرياضية ..مما شكل خطورة علي علي بقاء الاستعمار ذاته ..فكانت انطلاقة نادي الخريجين الحقيقية من وادمدني عاصمة مديرية النيل الازرق بتكوينها الرحب قديما..ولكن المفارقة ان الحكومات الوطنية نفسها في مرحلة ما بعد الاستقلال ورغم قصر أعمار حكمها المتقطة بدأت تنظر الي الجزيرة مديرية ومشروعا شذرا الا فيما ندر تحسبا لمد الوعي فيها ..فاسقطتها في فجوة الاستقطاب الحزبي .. حيث كانت طائفتا الانصار والختمية تتجاذبانها كل الي ناحيته ..في ترجيح بائن لصالح الانصار عطفا علي نشأة المهدية التاريخية و انطلاقا من علاقة الامام المهدى كما اسلفنا وللدور الهام الذي لعبه أهلها في مناصرته كامراء ومحاربين ..بل ان ثورة جدنا الشيخ عبد القادر ودحبوبة كانت بلا منازع امتدادا حقيقيا للمهدية حاولت الثأر لها واعادة خيمتها بعد ذهابها مع رياح غزوة كتشنر... ولا يمكن تجاوز سطوة البيوتات الصوفية الزاهدة في موالاة الحكام في ذلك الوقت أو حتي استقبالهم او طرق ابوابهم.. بيد ان الحرب الحقيقية للجزيرة ومشروعها بدأت مع نظام مايو ..حينما تأكد جعفر نميري من عناد اهل المنطقة في عدم الامتثال له علي مدي سنوات حكمه وتوسلاته لهم ..فاغرق المنطقة ببحور من الاهمال وطالت يد النظام تخريبا في بنية المشروع عموديا وافقيا ..اذ بات حقلا للتجار ب في رفده بالخبرات الفطيرة من الاداريين والفنيين سواء علي مستوي الزراعة أو الري..في تناقض تام مع توجهات مايو لاقامة مصانع للنسيج كان ينبغي ان يكون وجودها حافزا لتقوية شوكة المشروع لا اضعافها ..فجعلت تلك السياسة منه شماعة لتعليق الفائض من كوادر الخريجيين وغيرهم من المحسوبين علي النظام حتي ترهل ظله الاداري بما يفوق مساحة استيعابه الضرورية فضلا عن فورة الانفاق التي استنزفت الامكانات التي بدأت حلقتها تضيق وتتبدد امام الضرورات اللوجستية من نقل وسكن ومخصصات لتلك الجيوش من الافندية ..بالقدر الذي دفع الحكومة الي تبديل سياسات علاقات الانتاج التي تحكم الشراكة بين المزارعين والدولة وادارة المشروع في تقلبات غير مدروسة.. فبات كل ذلك التخبط يقتطع من مردود الطرف الضعيف في تلك الشراكة.. وهو المزارع بالطبع.. وقد شهدنا في أسى شديد ابان سنوات مايو علي سبيل المثال لا الحصر ان خدمات ارسال مناسيب الري التي كانت تتم بالهواتف عبر القناطر قد عادت الي مربع التبليغ بواسطة الدواب نظرا للتخريب الذي طال الشبكة الهاتفية التي كانت تربط حتى القري بابنائها البعيدين .. و اقتلعت جراء الاهمال اعمدتها وسرقت جهارا نهارا الي ان اعادت تأهيلها حكومةالسيد الصادق في النصف الثاني من الثمانينات وعلي نظام الطاقة الشمسية استفادة من قرض ياباني..وحتي هذه الأخيرة لم تصمد طويلا وذهبت مع رياح التخريب التي عادت من جديد لتذهب بالبقية الباقية من هياكل المشروع.. ليس بمقدوري ان اعدد كل العوامل التي ادت الي قعود هذا المشروع العملاق عن اداء دوره الريادي نحو الوطن بصورة عامة وتجاه أهله من ناحية خاصة ..ولكن من الواضح ان سلطة الانقاذ هي الاخري التقطت قفاز العداء له ولأهل الجزيرة لمواصلة خطة تدميرة متذرعة بشتي الحيل والمسببات بعضها ترده الي عوامل عالمية بتراجع هيمنة القطن علي سوق المنسوجات ( الآن يستعيد علو كعبه من جديد في الأسواق العالمية !!!) وتارة الي محاربتها من قبل امريكا حتي لا نصبح منافسا لها في بورصة القمح العالمية ..ومرة بافتقاد ارضه لخصوبتها بالتالي ارتفاع تكلفة اعادة تأهيلها وما الي ذلك من دواعي التغول علي حدوده الي ان اصبح مشاعا علي طاولة التدمير والتعدي الذي قصد به انسانه العنيد في مناطحة الظلم الشمولي وتمسكه بعقائدة وقناعاته التاريخية رغم اصباغ الزيف التي حاول النظام دلقها في وجه الجزيرة بتفريخ كوادره المدجنة لاحلالهم مكان القيادات الصلبة التاريخية سواء في اتحاد المزارعين أو مجالس الانتاج او ادارة المشروع والولاية...ونقاباته... حيث فشلت كل البدائل والاحلالات في قلب المعادلة فكانوا حقيقة تروسا فاعلة في الة التخريب فسادا واقتساما وعوامل دفعت الي توفير مسوغات النظام لاستهداف المشروع وتبرير الانقضاض علي انقاضه ..كجزاء سنمار وحرقا لقلوب انسانه بالصورة التي ادت الي هذا المآل ..فطالت يد التخريب مؤسسات النسيج و طحن الغلال والمحالج وسكك حديد الجزيرة..وكافة الأصول التي تم التخلص منها بالبيع الرخيص أو زجها في مزاد التسويات مع العاملين ..والشواهد لا تحصى في ذلك الشأن..! وحيال ذلك كله.. فليس امام أهل الجزيرة مزارعين ومثقفين وعمال وطلاب الخ من رجال ونساء الا الوقوف بصلابة الي درجة الاضراب المدني في وجه السلطة وحكمها الجائر علي مشروعهم الذي يمثل الكرامة قبل أكل العيش.. حتي يعاد الي مربع التحاور من جديد ..وبمعرفتهم الذاتية و مشاركتهم المباشرة كطرف اصيل عبر ممثلين جدد غير الذين عاموا في تيار السلطة الحالية انغماسا في مصالحهم الذاتية من قادة اتحاد المزارعين ونقابات العمال الذين انقلبوا علي المشروع واهله وعاثوا فسادا في تقرير مصيره .. فالثورة مطلوبةالآن من أهل الجزيرة قاطبة ليس بالطبع لمصلحتهم في حدودهم هم بل لمصلحة ما تبقي من السودان ..الذي ان سكت أهله علي نظرية ان كل من قال لا ..لنظام الانقاذ هو عبء لابد ان يترجل من قاطرة الوطن .. فانها في سبيل ان تسّلم السودان لعقارب ساعة القيامة ..فلن يبقي من ترابه في ظلها الا ما يتيح لأقدام قادتها وحزبها الوقوف فوق روؤس موتاه قبل البعث.. ولعل الموضوع يحتمل المزيد من مساهمات الأقلام التي قد تكون أعرف مني باشياء أخري تضيف بعدا للحقائق الغائبة أوللحلول..من منطلق التخصص الفني أو تراكمات الخبرة في العمل العام ..في جزيرتنا المنكوبة ومشروعها الموؤد.. والله المستعان ..وهو من وراء القصد.